يعتبر المفكر الجزائري مالك بن نبي طرازاً غير تقليدي من مفكري المسلمين المعاصرين.
فكر الرجل وكتاباته انتشرت في الشرق أكثر من المغرب، ويعتبر الكاتب جودت سعيد السوري من أهم تلامذته المشرقين، وقد أكون أنا أيضاً ممن استفاد من كتابات الرجل حينما زارنا فلازمته شهرا كاملاً. سافرت معه إلى بيروت، وكان يتابع نشر كتابه دور المسلم في عالم الاقتصاد، ومما أسر إلي أيضا وأنا بجانبه في طريق السفر إلى بيروت أن مدحه لعبد الناصر في كتبه كان زلة، وبتعبيره "كان صنما لا يضر ولا ينفع"، وهذه كانت من مقاتل كتاباته فقد انصرفنا عنها لفترة لأننا كنا نرى بطش عبد الناصر في الوقت الذي كان مالك بن نبي يمدحه بكلمات يظن أنها ستقربه زلفا.
كان الرجل شديد الوسوسة يرى رجال المخابرات عن اليمين والشمائل وفي المنام وحيثما تلفت، وكان يغلق باب بيته بالعديد من الأقفال خوفا منهم، والأقفال لن تغني عنه شيئا، ولو كانت أقفال خزائن قارون. والرجل كان مسلم القلب مهتما بنهضة المسلمين. ولكنه اطلع على إضافات المعرفة. وكم كان صادقاً حين ذكر في كتابه "الأفرسيوية" "إن إنساناً يجهل إضافات القرن العشرين للمعرفة الإنسانية لا يدخل بين الناس إلا ويجلب السخرية لنفسه".
وكان من ناحية المهنة, مهندسا كهربائياً، ولكنه مارس حرفة الفكر أكثر من مهنة الكهرباء. وعاش فترة الاستعمار الفرنسي، وأحزنه تخلف المسلمين، وشارك في النضال السياسي، ودخل مصر لاجئاً سياسياً، وكتب قسماً من كتبه باللغة الفرنسية التي كان يتقنها، وكان يعرف الحضارة الغربية كخبير وليس كسائح.
زوجته الأولى كانت فرنسية مسلمة عاشت معه المعركة الفكرية وهموم المطاردة والتنقل، وبعد فترة الاستقلال الجزائري عين وزيرا للتربية لفترة. ولم ينتشر فكر هذا الرجل على أهميته إلا قليلاً، وكتاب مثل (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) للكواكبي الحلبي، موجود في كل مكتبة، بقدر وجود الاستبداد السياسي في كل قطر عربي، مما يدل على أن أعظم الكتب لا يستفيد منها الحمار الذي يحمل على ظهره أسفاراً، وأمة العربان أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب بل تحملق في الفضائيات.
وأهم خمس أفكار طرحها هي: فكرة "علاقة الحق بالواجب" و"المعرفة التاريخية" و"نهاية القوة" و"عالم الأفكار والأشياء" و"القابلية للاستعمار". فهو يرى أن من يقوم بواجبه تنشق له السماء ويأتيه حقه. فالحقوق لا تؤخذ ولا تعطى بل هي ثمرة طبيعية للقيام بالواجب، وهو أول ما علمه النبي ص أتباعه، وكانوا رضوان الله عليهم يكثرون عند الفزع ويقلون عند الطمع، وأن الحركات السياسية ضللت الشعوب بمنطق سقيم بالمطالبة بالحقوق، وأن ثلاث معادلات تحكم علاقات الواجبات والحقوق، ففي التساوي يحافظ المجتمع على خط السواء، وفي حال فائض الواجبات يحلق ويصعد، وعندما تزداد وتيرة المطالبة بالحقوق يكب المجتمع على وجهه في ليل التاريخ؟
وعن (المعرفة التاريخية) حلل بن نبي حركة المجتمع الإسلامي، أنه في دورة ذات أربع مراحل: الروح والعقل والغريزة والانبعاث. وانه توقف مع معركة صفين عام 32 هـ فكانت أعظم من معركة عسكرية، حيث تزحزح مفهوم القيم في المجتمع الإسلامي كما عبر عنها (عقيل ابن أبي طالب) قائلاً, إن صلاته خلف علي أقوم لدينه، وان تعاونه مع معاوية أنفع لمعاشه، وكان هذا إيذانا بانشقاق الضمير الإسلامي بين الواقع والمثال. وكل ذيول هذه الكارثة ما زلنا نعاني منها حتى اليوم بتعانق الجبت والطاغوت.
قال بن نبي ثم كانت (لحظة) ابن خلدون حيث انكسر مخطط الحضارة الإسلامية حتى انطفأت. ولذا فهو كتب كل شيء وفسر كل شيء في نقطة الانبعاث الحضارية، بما فيها الغناء والموسيقى، حينما سئل عن الحرام والحلال فيها فقال: أنا أنظر للمسألة من زاوية الحضارة؛ فحين تنحط الحضارة تخرج نغما سقيما، وحين تنهض الروح يخرج اللحن أعذب ما يكون. وفي هذه النقطة اشتبك مع الأصوليين الذين ينفون سمة الحضارة عن أي مجتمع ما لم يكن إسلامياً، وهو ما تورط فيه (سيد قطب) حينما خرج بكتاب له بعنوان" نحو حضارة إسلامية", ثم غير العنوان إلى "نحو مجتمع إسلامي"، وقال في تبرير التغيير إن كلمة إسلامي تعني تلقائيا الحضارة، مما دفع مالك بن نبي للتعليق عليها: إنها آليات غير ذكية للتعويض النفسي.