قلت في مقال سابق إن من غير الصحيح فكريا مطابقة مفهوم الديمقراطية مع مفهوم الليبرالية لأن كليهما قد تطور تاريخيا وتبدل مضمونه بشكل مستقل نسبيا عن الآخر بالرغم من وشائج القربى العميقة التي لا تزال تجمع بينهما. لكن في ما وراء مشكلة التطابق أو عدم التطابق المفهومي بين المصطلحين ينبغي طرح الموضوع أيضا، وهو ما أردت تناوله في هذا المقال، من زاوية النجاعة العملية، أي أخذا بالاعتبار شروط تحقيق الديمقراطية في الواقع والممارسة، وهو ما يتعلق بقضية الاستراتيجية. وفي مقدمة المسائل التي يطرحها بناء استراتيجية العمل الديمقراطي في البلاد العربية تكوين منظومة القوى الديمقراطية القادرة على التغيير والتحويل الديمقراطي للدولة والمجتمع معا. وهو عملية طويلة ومركبة تستدعي جهودا سياسية وفكرية وتنظيمية متعددة. وفي هذا المجال تطرح مسألة التحالفات السياسية الواسعة. فمن المشكوك فيه أن ينجح التيار الليبرالي في مجتمع شبه صناعي أو ما تحت الصناعي في أن يتحول إلى أغلبية ويشكل وحده القوة القادرة على التغيير المنشود. إن نجاحه يتوقف على قدرته على أن يجذب إلى ساحة المعركة الديمقراطية، بالإضافة إلى النخبة الناشئة والمتنامية في وسط المثقفين والطبقة الوسطى وما تميل إليه من نزعة علمانية وتحررية، النخب الأخرى الجديدة والقديمة التي بدأت تقطع مع النظام الشمولي وتبحث هي أيضا عن مخرج لها من المأزق الذي وضعها فيه هذا النظام. وفي اعتقادي أننا لن نتمكن في العالم العربي من تأمين شروط التحول الديمقراطي الحقيقي وبناء القاعدة السياسية والفكرية الضرورية لاستقرار الديمقراطية وقطع الطريق على احتمال مصادرتها من جديد من قبل مجموعات المصالح والأجهزة البيروقراطية والأمنية ما لم ننجح في جذب هذه النخب نحو المنظومة الديمقراطية التي تستطيع وحدها أن تقدم لها المخرج من مأزقها، سواء ما تعلق منها بالنخب الإسلامية أو النخب القومية أو النخب اليسارية. ولن يمكن تحقيق ذلك من دون إعادة بناء هذه المنظومة بما يسمح باستيعاب الفكر الديمقراطي لكل الحساسيات المناوئة للاستبداد والنازعة إلى الارتداد عليه.
بالتأكيد ليس من المنتظر أن يتحول القسم الأكبر من النخب الاسلامية إلى ما نطمح إليه من ديمقراطية إسلامية، أي إلى إنزال برامجها الاسلامية في قالب الديمقراطية وقيمها الأساسية. وليس من المؤكد أيضا أن ينجح قسم كبير من النخب القومية التي اختارت الشعبوية ولا تزال رهينتها في أن يواكب في تحوله قيم الديمقراطية الحقيقية. كما أنه ليس من المؤكد أن يهجر اليسار أو قسم كبير منه هواجسه الدولوية ويتوافق مع قيم الديمقراطية. لكن بالمقابل ليس من حقنا ولا من حق أحد أن يصادر مثل هذا الاحتمال ولا أن يقطع الطريق عليه حتى لو كان احتمالا ضئيلا. وليس هناك ما يدعونا إلى قطع الأمل من مثل هذا التحول في ظروف الانهيار الكامل الذي عرفته الفكرة الشمولية في العالم أجمع وتحت تأثير التحولات الفكرية والسياسية والجيوسياسية المتسارعة أيضا. ولا شيء يدعونا إلى أن نحكم بالإدانة المطلقة والنهائية على أصحاب هذا الفكر أو ذاك وتناقضهم الحتمي والدائم مع قيم الديمقراطية وروحها. بالعكس إن كل العوامل الراهنة تشير إلى أن الجميع يتطلع إلى الفكرة الديمقراطية كمخرج من الأزمة الطاحنة التي يعاني منها. ولا يحق لنا أن نغلق الباب أمام أحد كما لا يتوجب علينا عدم السعي بكل ما نملكه من وسائل نظرية وعملية من أجل توسيع قاعدة الحركة الديمقراطية الاجتماعية.
هل يؤثر دخول هذه التيارات التي لم تكن ذات اختيارات ديمقراطية في الماضي، وليس من المؤكد أن تكون خياراتها الديمقراطية الجديدة متسقة ومتكاملة في المستقبل، على قوة التيار الليبرالي أو اتساقه؟ بالعكس إنها ستعززه بقدر ما تجعله تيارا ديمقراطيا بين تيارات عديدة يشكل وجودها وتميزها وتعبيرها عن الحساسيات الاجتماعية المختلفة أساس توازن النظام الديمقراطي القادم. وبفضل هذا الإغناء لفكر الديمقراطية وجمهورها معا نستطيع أن نضمن أن تصب جميع النضالات وجميع المعارضات في الخيار الديمقراطي كما نضمن أن يظل الصراع داخل النظام القادم في الإطار الديمقراطي أي السلمي. وبالمقابل لن يخدم استعداء التيار الإسلامي أو القومي بالرغم من عدم اتساق أفكارهما ولا تهميشهما ووضعهما في المعكسر المعادي للديمقراطية أو في تناقض مع القضية الديمقراطية, ولن يساهم ذلك في مساعدتهما على تطوير استجابات سلمية وسليمة للمشاكل الوطنية.
المسألة الاستراتيجية الثانية المهمة تتعلق بتحديد طبيعة برنامج الديمقراطية العربية القادمة. ذلك أن الديمقراطية ليست بحد ذاتها برنامجا قائما بذاته أو مكتفيا بنفسه. إنها إطار سياسي يقبل تطبيق برامج متعددة ومختلفة قد تتباين في خياراتها الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية العليا أو الاستراتيجية. وفي الولايات المتحدة يتنازع حزبان ديمقراطيان على الحكم بسبب هذا الخلاف بين البرامج لا بسبب الاختلاف في تقدير أهمية القيم الديمقراطية أو قيم الحرية