في الكتابة العربية هذه الأيام تيار يتعاطى مع ظاهرة الإرهاب بمنهج يعكس النظرة العربية الشائعة للأيديولوجيا على أنها قناع للإخفاء والتدليس. يتمثل هذا المنهج في الهجاء، أو هجاء العمليات الإرهابية، ولا شيء غير الهجاء. يبدو الأمر وكأنه إنخراط في خطاب اعتذاري باسم الأمة، كما لو أن ذنب جريمة الإرهاب ينسحب على الأمة كلها. الكل في هذا التيار معني بتبرئة ذمته، ليس أمام نفسه وحسب، بل وأمام الآخر. غالباً ما ينتهي الهجاء الى ترديد لحديث بديهيات. والإرهاب جريمة منكرة في كل الأعراف والقوانين الإنسانية، بما في ذلك الإسلام. ربما جاز تفصيل الموقف الإسلامي من هذه الظاهرة في بدايتها، أو بين الحين والآخر، وذلك لإبقاء الموقف الإسلامي منها حاضرا لدى الأوروبيين والأميركيين، باعتبارهم أولا مستهدفين، وثانيا لأن أغلبهم لا يعرف أن الإرهاب لا تقره شريعة الإسلام. لكن صورة الواقع أكثر تعقيدا من ذلك بكثير.
هل هناك علاقة بين الإرهاب والحرب في العراق، وفلسطين وأفغانستان، مثلا؟ هل الإرهاب ظاهرة سياسية أم مجرد نتاج لفكر منحرف ومأزوم، ولا علاقة له بالواقع السياسي؟ بالنسبة لتيار الهجاء, هذه الأسئلة ليست ذات صلة بالموضوع، بل هي أقرب إلى الإنحراف والزيغ السياسي، لأن هدف من يطرحها هو محاولة إيجاد مبررات للإرهاب وأتباعه والمتعاطفين معه. كيف؟ لأن القول بأن الحرب على العراق هي سبب أو أحد أسباب الإرهاب يعني أنه لو لم تكن هذه الحرب لما كان هناك إرهاب، وبالتالي فالحرب في العراق هي المسؤولة عن هذا الإرهاب وليس الفكر الذي يرتكز إليه. والنتيجة النهائية لمثل هذا الطرح هي تبرئة الإرهابيين وتبرئة الفكر الإرهابي. في حين أن الإرهاب وجد قبل هذه الحرب، وقبل قيام إسرائيل، بل قبل قيام الولايات المتحدة ذاتها.
بهذه المجادلة يقع كتاب الهجاء في الخطأ الذي يأخذونه على غيرهم. تبرئة إسرائيل والولايات المتحدة. هذا ليس هدفهم، لكنه مقتضى المجادلة التي يدفعون بها بإصرار. القول بأن الحرب على العراق هي عامل مهم وراء تفاقم الإرهاب لا يعني أن الإرهاب لم يكن موجودا قبل الحرب أو قبل ظهور الولايات المتحدة. الإرهاب ظاهرة سياسية، أو الصيغة السياسية للجريمة، وبالتالي لا يمكن بأي حال من الأحوال فصله عن محيطه أو إطاره السياسي الذي برز فيه. والفكر هو أحد عناصر هذا الإطار. في الماضي كان هناك إرهاب، لكن شكله كان مختلفا، وإطاره الإقليمي والدولي، ومن ثم إطاره السياسي كان أيضا مختلفا عن الإطار الحالي لإرهاب المرحلة المعاصرة. يبدو لي أن هذا أحد بديهيات البحث والتفكير. وإذا أخذنا بالمنطق الهجائي فإنه يجب علينا أن نتوقف عن الدراسة والتحليل، وأن تتوقف الأبحاث العلمية.
خذ مثالا قريبا جدا من موضوع الإرهاب، وهو مثال الجريمة في المجتمع. الناس في كل مجتمع ضد الجريمة، ويعرفون خطرها عليهم وعلى مجتمعهم، ولذلك وضعت قوانين للحد من تفاقم هذه الظاهرة وتفاقم مخاطرها. لكن في الوقت نفسه ظهر علم مستقل متخصص في دراسة هذه الظاهرة، وهو علم الجريمة، أو علم إجتماع الجريمة. وأهم اهتمامات هذا العلم هو محاولة الكشف عن الأسباب، إجتماعية أو سياسية أو اقتصادية، أو غيرها، التي تفسر درجة تفاقم الجريمة واتساعها أو تراجعها في المجتمع، أو تفسر انتشار نوع من الجريمة في هذا المجتمع أو ذاك. ولم يقل أحد إن الهدف من وراء إحداث هذا العلم هو تبرير الجريمة، أو أن عصابات الإجرام هي التي تقف وراء هذا العلم وتمول أنشطته البحثية. على العكس يعتبر المجتمع الذي لا يتعاطى مع الجريمة إلا بمنطق العقوبات، وإغفال التناول الفكري والاجتماعي له، مجتمعا متخلفا ويعاني من خلل في قدراته العلمية والفكرية. والإفتراض هنا أن نشر قيم العلم والمعرفة، وتعميق درجة الوعي لدى أفراد المجتمع، من خلال توفير مناخ لحرية التفكير، يعتبر أحد أهم التحصينات التي تحمي المجتمع في وجه مثل هذه الظواهر. والإرهاب بما أنه شكل من أشكال الجريمة، فإنه مشمول بالتناول العلمي ذاته.
الذين يرفضون تحليل ظاهرة الإرهاب, يتنكرون لمبادئ العقلانية التي باسمها يهجون الإرهاب. وهم بهذا لا يختلفون عن كتاب ومراكز أبحاث في أوروبا وأميركا، بل يتناقضون مع أنفسهم, لأنهم ينكرون حرية التعبير وحرية الرأي. فرفض التحليل والتسبيب يرتكز على فرضية خفية، وهي أنه يجب أن يكون هناك رأي واحد، وموقف واحد، وعاطفة واحدة، وطريقة واحدة لتناول الإرهاب. بعبارة أخرى، تيار الهجاء يدعو إلى الشمولية، في مواجهة شمولية الفكر السلفي الجهادي. الاستبداد والشمولية أحد أهم الأسباب وراء انتشار العنف والإرهاب في المنطقة. عندما تقول إن أي محاولة لتحليل ظاهرة الإرهاب ومعرفة أسبابها ليست في الأخير إلا محاولة لتبرير الإرهاب وتسويقه، فأنت في واقع الأمر تصم التفكير العلمي، والتحليل السياسي بصفة الإرهاب، وهذه محاربة واضحة، وترويع للكف عن التفكير والتحليل ومحاولة معرفة الأسباب. لا أخال هذا هو منطق, على الأقل, بعض من يمتهن الكتابة ويعنى بالشأن العام. لك