ما زالت الملابسات التي أحاطت بحادث خطف السفير المصري في بغداد في الثاني من الشهر الجاري ثم الإعلان عن قتله على أيدي مختطفيه في السابع من الشهر نفسه تثير من علامات الاستفهام أكثر مما تقدم من أجوبة، وظني أن وقتًا طويلاً سوف يمر قبل أن تتضح الحقيقة كاملة. ويكفي أن الرأي العام يتساءل بحق عما إذا كان الرجل قد لقي وجه ربه فعلاً< أم أنه ما زال في أيدي مختطفيه أو غيرهم طالما أن أحدًا لم يعثر على جثته. وثمة ملاحظتان أساسيتان على ما وقع, أولاهما تتعلق بسلوك مختطفيه. والثانية تنصب على رد فعل الحكومة القائمة حاليًا في العراق.
أما المختطفون فقد حددوا هويتهم بأنهم تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين، وقد كان ذنب الرجل من وجهة نظرهم مزدوجًا. فهو أولاً, على رأس سفارة بلد عربي مهم في بغداد, بينما ينتقد مختطفوه وجود السفارات في بغداد أصلاً ويصفونها على نحو ما ورد في واحد من بياناتهم بعد الاختطاف- بأنها "مراصد لاقتناص المهاجرين المجاهدين". وهو ثانيًا, سفير "للكفار" بصفته سفيرًا لدولة مصر "الموالية لليهود والنصارى", ناهيك عن تاريخه "المظلم" عندما كان قائمًا بأعمال رئيس البعثة الدبلوماسية المصرية في إٍسرائيل في المدة من1999 إلى2003. ولذلك كله فإن "محكمتهم الشرعية" قررت تحويل السفير إلى المجاهدين "كي ينفذوا حد الردة فيه".
هكذا حرف مختطفو السفير المصري مسار الأمر كله من الجدل الواجب حول سلامة السياسة المصرية خاصة والعربية عامة تجاه ما يجري في العراق, إلى تكييف المسألة تكييفًا دينيًا مفتعلاً يسهل الرد عليه على نحو ما حدث في عشرات من تصريحات مضادة من رجال دين ومفكرين اتهمتهم بدورهم بأنهم مفسدون في الأرض وبأن الإسلام منهم براء. بل إن جماعتين أصوليتين مصريتين (الجهاد والجماعة الإسلامية) حرصتا على أن تسجلا موقفيهما من واقعة اختطاف السفير في بيانين منفصلين أدان كلاهما اختطاف السفير وقتله. أشار بيان الجهاد, إلى تحريم الإسلام قتل المدنيين تحريمًا قاطعًا حتى إذا كانوا من غير المسلمين, وتحريم قتل السفراء والرسل بصفة خاصة طالما أنهم لم يشاركوا في الحرب ضد المسلمين. أما الجماعة الإسلامية فقد أشار بيانها إلى حرمة دم المسلم وماله, وركزعلى أنه حتى لو كان سفير مصر مواليًا لأميركا فهذا بحد ذاته لا يصلح سببًا لقتله إلا أن يأتي فعل كفر صريح. هذا بالإضافة إلى ما تضمنه البيان من تحليلات "سياسية" ما أنزل بها من سلطان.
هكذا نجح المختطفون في صرف النظر عن "محاكمة السياسات العربية الرسمية تجاه ما يجري في العراق", إلى جدل فقهي يستحيل على أطرافه أن يحسموه بالإضافة إلى نجاحهم في خسارة تعاطف الرأي العام المصري الذي ميز بوضوح, بين الاحتلال الأميركي للعراق وبين قتل سفير يعد رمزًا لدولة بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع سياسة حكومتها.
أما الملاحظة الثانية, فترتبط بالحكومة العراقية ورد فعلها لما جرى. في البدء لاحظ المراقبون المدققون أن فتورًا ظاهرًا يميز رد الفعل هذا, على الرغم من إدانة رئيس الوزراء العراقي للفعل واعتباره عملاً إرهابيًا يحمل رسالة للدول التي تريد عودة العلاقات مع العراق خاصة العربية منها والإسلامية. وفي الخامس من يوليو –أي في اليوم الرابع لواقعة خطف السفير- طرحت دوائر سياسية "رفيعة" في بغداد فرضية عدم اختطاف السفير أصلاً, وأن تكون جماعة مسلحة قد استضافته. وقد بدا هذا النوع من التفكير غريبًا غير أنه سرعان ما كشف عن الطريقة التي تفكر بها حكومة الجعفري في الموضوع. فقد استغرب الناطق باسم رئيس الوزراء خروج السفير المصري بدون حماية، واعترف بأنه "في العراق لا يوجد مسؤول يخرج من دون حماية, ولذلك فإن الملابسات غير واضحة"، وهو ما يذكرنا بالتناقض بين هذا الوضع وبين وضع ينعم فيه مسؤولو الاحتلال بإقامة آمنة داخل ما يسمى بالمنطقة الخضراء.
وفيما بعد اتضحت الملابسات لحكومة الجعفري. فقد أخذت ترسل عددًا من الإشارات يُفهم منها أن السفير المصري قد وقع ضحية لأفعاله أو أفعال حكومته, إذ كان يجري اتصالات مع "متمردين". بدأ الأمر باتهام الحكومةالعراقية لدبلوماسيين بأنهم يلتقون مع "إرهابيين". وأكد وزير الداخلية, على أن السفير يتحمل المسؤولية كاملة عن أمنه, "إذ كان موجودًا وحيدًا في منطقة خطر"، واختتم الأمر بأنباء أفادت بأن حكومة الجعفري تحقق في اتصالات مصرية مع مجموعات من المتمردين. صحيح أن رئيس الوزراء عاد لينفي هذا كله لاحقًا لكن الرسالة كانت قد وصلت.
بدت حكومة الجعفري مرتدية ثوب اللوم والغضب على غير استحقاق. فمنذ أسابيع قليلة حملت الأنباء تصريحات علنية لوزير الدفاع العراقي عن اتصالات موسعة بين الحكومة العراقية و"المسلحين" لتحقيق الاستقرار في العراق. وأشار مسؤولون أميركيون إلى أن "السلطات العراقية" هي التي طرحت فكرة "العفو عن المسلحين" على البنتاجون في محاولة منها للقيام بدور رائد في تهدئة الأمور. لم تغضب حكومة الجعفري آنذاك من تصريحات تنسب لها مبادرة العفو هذه والتي استخدمها