أثار الممثل الأميركي الشهير "توم كروز" عاصفة في عالم الطب النفسي، امتد نطاقها مؤخراً ليشمل كلا من الولايات المتحدة وبريطانيا. ففي مقابلة ضمن أحد البرامج واسعة الانتشار (Today Show)، صرح "توم كروز" بأنه لا يؤمن بالطب النفسي، وأن العقاقير المضادة للاكتئاب، وغيرها من الأدوية المستخدمة في علاج الأمراض النفسية، هي مواد كيميائية شديدة الخطورة لا حاجة لتعاطيها. وأضاف الممثل بأنه لا وجود لما يطلق عليه الأطباء "الاختلال الكيميائي"، في اشارة إلى تفسير البعض للأمراض النفسية وخصوصاً الاكتئاب، على أنها نتاج اضطراب في التوازن الكيميائي داخل الخلايا العصبية. ورغم أن "كروز" لا يحمل درجة طبية أو علمية في الأمراض النفسية، إلا أن شهرته الواسعة وتأثيره الثقافي داخل المجتمع الأميركي، خلق صدى واسعا لتصريحاته تلك، نتج عنها ما يشبه الزلزال داخل المجتمع الطبي المتخصص في الأمراض النفسية.
فكما هو متوقع، سارع المئات والآلاف من الأطباء النفسيون، والعلماء المتخصصون، في دحض كلمات وتصريحات الممثل الشهير. ولكن المفاجأة أن تلك المقابلة وما صدر عنها، كشفت عن وجود فريق آخر من العلماء، يعتقد ويؤمن إيماناً وثيقاً، بصحة كل كلمة تضمنتها تصريحات الممثل الشهير. ولكن قبل الاستطراد في شرح وجهة نظر هذا الفريق، وخصوصاً في الجانب المتعلق بالاكتئاب والعقاقير المستخدمة في علاجه، يجب أن نسترجع المفهوم الطبي المتعارف عليه للاكتئاب، والمعايير التي يمكن من خلالها تشخيص الاصابة بالمرض. بداية, يمكن أن نعرف الاكتئاب على أنه وصف علمي وعامي في نفس الوقت، يشير إلى سوء الحالة النفسية وانكسار الروح المعنوية. ورغم أنه من الشائع أن يصاب الشخص العادي بفترات متقطعة من الهم والحزن، إلا أن البعض يظل يعاني من هذه الحالة السلبية النفسية لفترات طويلة ومستمرة. ولذا يفرق الأطباء بين الاكتئاب الذي عهدناه جميعاً يوماً ما بشكل أو بآخر، وبين الاكتئاب المرضي أو السريري.
وتعتمد التفرقة بين الاكتئاب العادي والاكتئاب المرضي على معايير محددة، لابد أن تنطبق على الشخص المكتئب حتى يتم منحه تشخيصاً بالاكتئاب المرضي. هذه الشروط يمكن تلخيصها في استمرار الأعراض لفترة أسبوعين، أو أكثر، وأن تكون تلك الأعراض من الشدة بحيث تؤثر سلباً على الحياة اليومية للشخص المصاب. هذا التصنيف تشير الاحصائيات إلى أنه أصبح يمنح للكثيرين حول العالم. ففي بريطانيا مثلاً، يصنف واحد من كل خمسة أشخاص على أنه مصاب بالاكتئاب المرضي، وهو ما يكلف الاقتصاد البريطاني حوالي 8 مليارات جنيه استرليني سنوياً. واذا ما استخدمنا الأرقام السابقة، لقياس الوضع داخل الدول الأخرى، فيمكننا الاستنتاج ان الاكتئاب يصيب عشرات الملايين وربما مئات الملايين حول العالم.
ولكن هذه الأرقام في حد ذاتها هي التي تدفع البعض للاعتقاد بأن الاكتئاب مرض لا وجود له، وأنه مجرد "تمريض" للحالة الانسانية العادية، أي جعل الوضع الطبيعي وضعاً مرضيا، يتطلب العلاج والمداواة. مثل هذه الفلسفة، امتد نطاقها مؤخراً ليشمل بالنقاش أمراضاً أخرى، مثل الإدمان والسمنة وحتى مرض السكري. فالتزايد المضطرد والهائل في أعداد من أصبح الأطباء يصفونهم بصفة المرضى، زاد من الشكوك في أن يكون الخطأ في تعريف المرض نفسه، وليس في المريض. ويضرب هذا الفريق مثالاً، بمستويات الكوليسترول أو الدهون في الدم. فخلال السنوات القليلة الماضية، خفضت الجهات الطبية الأميركية من المستويات الطبيعية، التي إذا ما زادت الدهون عنها، يصبح ساعتها الشخص مريضاً بارتفاع الكوليسترول، أو باضطراب الدهون. وفور تمرير المعايير الجديدة، وجد الملايين من الأشخاص -الذين كان يطلق عليهم بالأمس أصحاء-، حالهم مرضى بين ليلة وضحاها، حسب التعريف الجديد للمرض.
هذا المنطق بالتحديد، هو ما استخدمته "جوانا مونسريف" أستاذة الطب النفسي في "ينيفرستي كولدج في لندن" في كتابها, "تمريض الحياة العصرية". وتطرح مونسيرف في هذا البحث فكرة أن الأمراض النفسية ليست إلا أوهام وتخيلات، من نتاج التركيبة والظروف، مع تشكيكها في وجود مرض اسمه الاكتئاب، أو وجود حاجة لعلاجه. وتؤكد "مونسيرف" وجهة نظرها، من خلال تحليل الدراسات التي أجريت للمقارنة بين فعالية أدوية علاج الاكتئاب المختلفة وبين أقراص "بلاسيبو" (Placebo)، أي أقراص بدون المادة الفعالة. هذا الأسلوب يستخدم كثيراً في الدراسات الطبية الخاصة بدراسة فعالية عقار ما، حيث تمنح مجموعة من المرضى أقراصا محتوية على العقار الفعال، بينما تمنح مجموعة أخرى مماثلة أقراصا بدون المادة الفعالة.
وبتحليل التغيرات التي تحدث بين المجموعتين، يمكن التعرف على مدى فعالية العقار في إحداث التغيرات المرجوة. وما وجدته "جوانا مونسيرف"، ومن قبلها "إيرفنج كيرش" أستاذ الطب النفسي، أن بتحليل نتائج أكثر من سبع وأربعين دراسة في العام 2002، أجريت لاختبار فعالية ستة من العقارات الأوسع استخداماً في علاج الاكتئاب، ظهر عدم وجود فرق، أو وجود فرق لا ي