ها هم سكان لندن يركبون مجددا الحافلات وقطارات الأنفاق التي لم تمض إلا أيام على تعرضها لتفجيرات دامية مؤكدة بذلك أسطورة ما يتمتع به البريطانيون من جلد وقوة تحمل اشتهرا بهما على مر التاريخ. لكن وبالرغم من ذلك فإنه سينقضي وقت طويل قبل أن يستطيع البريطانيون كما العالم أجمع إدراك حيثيات ما جرى صبيحة ذلك الخميس الدامي. وكما في الكثير من الأزمات المماثلة غالبا ما يتم القفز إلى استنتاجات وتقييمات خاطئة سرعان ما تصبح تفسيرا رسميا. وإذا ما حصل ذلك بالفعل وأضعنا صفاء ذهننا وسط التحليلات المتهافتة فإن ذلك لن يسدي لنا أية خدمة لمواصلة صراعنا ضد الإرهاب خلال الأشهر والسنوات المقبلة.
ولعل أهم مثال على ما يمكن أن ننجر إليه من تقييمات متسرعة هو ما شاهدته من نافذتي في ساحة "سانت جيمس" بلندن حيث تتراص العشرات من الأعلام البريطانية المنكسة معبرة عن الحزن والأسى اللذين يعتصران قلوب البريطانيين في هذه اللحظات العصيبة. ولئن كان ذلك منظرا مؤثرا بالفعل ودارجا في مثل هذه المناسبات الأليمة، إلا أنه لا يجب أن يشكل جزءاً من ذلك التقليد التاريخي والطبيعي الذي يدفع الناس إلى إدراج الجديد في خانة المألوف وإلحاق المستجد من الأمور بما هو قديم. فنحن غالبا ما ننزع إلى الاعتقاد أن أغلب الأحداث في أغلب الأوقات ما هي إلا تغييرات بسيطة تلحق بالماضي وتنويعات طفيفة تضاف إليه دون خلخلته.
ولعل المثال الأبرز عندما نعتقد أننا نعرف التفجيرات الإرهابية في لندن بفضل تجربتنا الطويلة مع الجيش الجمهوري الأيرلندي الذي قام في الماضي بالهجوم على رئيسة الوزراء السابقة تاتشر في برايتون سنة 1984، والذي أقدم على قصف مقر رئاسة الوزراء البريطانية سنة 1991. بالإضافة إلى ذلك نزعم بثقة أحيانا أننا نعرف الحرب وقنابلها فقط لأننا مازلنا نتذكر القصف الجوي المكثف الذي تعرضت له لندن إبان الحرب العالمية الثانية. لذلك هناك ميل جارف إلى عدم إدراج التفجيرات الإرهابية التي ضربت لندن خلال الأسبوع الماضي في خانة الحرب، وتفسيرها في المقابل على أنها رد فعل على مواقف سياسية وهي بذلك تكون شبيهة بممارسات الجيش الجمهوري الأيرلندي التي خبرناها. والأخطر أن هذا التفسير يدعو إلى التعامل مع ذلك النوع من الإرهاب بنفس المنطق معتقدا أنه سيؤدي في النهاية إلى تحييده كما حصل مع الجيش الأيرلندي الجمهوري.
لكن إذا نظرنا إلى ما يجري حاليا في العراق حيث يتطلب قتال الإرهابيين جهدا أكبر مما تطلبته هزيمة صدام، فإننا ندرك أن طبيعة الحرب قد تغيرت عن النموذج الذي كان زمن الحرب العالمية الثانية أو حتى في حرب الخليج الثانية. وإذا نظرنا كذلك إلى الأهداف الكارثية التي يتبناها أسامة بن لادن، والممارسات التي كانت تقوم بها حركة طالبان عندما كانت في السلطة، حينها سندرك أننا بصدد التعامل مع أشخاص لا يشبهون في شيء جيري أدامس زعيم حزب "شين فين" والجناح السياسي للجيش الجمهوري الأيرلندي. وإلى ذلك هناك فخ آخر يجب ألا نقع في شباكه يتمثل في التهوين من تفجيرات لندن واعتبارها أقل خطورة ما دامت لا تضاهي هجمات 11 سبتمبر من حيث الضحايا. غير أن التفجيرات المتزامنة التي هزت لندن تستدعي تخطيطا متطورا ومهارة عالية.
ويبدو أن منفذي التفجيرات لم يكونوا إلا عناصر صغيرة قاموا بتنفيذ أوامر قادة كبار أشرفوا على تمويل تلك العمليات ووفروا لها الدعم اللوجستي، كما قاموا بالتخطيط لها بمهارة في ظرف سياسي حساس. ولا شك أن هدف الإرهابيين هو التأثير على الأحداث السياسية سواء في العراق أو مناطق أخرى وهو ما يدفعنا إلى الاعتقاد أن تفجيرات لندن هي أقرب إلى تفجيرات مدريد منها إلى هجمات 11 سبتمبر، وليس مستبعداً أن تقع اعتداءات مماثلة أخرى. وفي نفس السياق يجب ألا ننخدع لعدد الضحايا المنخفض نسبيا فرسالة الإرهابيين كانت ذات طبيعة سياسية واقتصادية واضحة وهو ما وصل بالفعل إلى المسؤولين. لقد أصبح الإرهاب في القرن الحادي والعشرين امتداداً للدبلوماسية بوسائل أخرى لا تقل في عنفها وفظاعتها عما يمارس في ساحات المعارك، حيث يتم توظيف تلك الوسائل من أجل الوصول إلى أهداف سياسية معينة.
وأخيرا يجب أن نتفادى التسرع إلى استنتاج أن هذه الهجمات الانتحارية التي استهدفت الحافلات وقطارات الأنفاق في لندن يمكن أن تثبط صحة آرائنا حول محاربة الإرهاب، ذلك أن ما حصل في 7/7 لم يكن له علاقة كبيرة بالعراق وأفغانستان. فشبكات الإرهاب العالمي لم تكن لتوفر بريطانيا وتقي سكانها من الترويع حتى لو استمر صدام حسين على رأس سلطته الاستبدادية، لأن كل ما تسعى إليه تلك الشبكات الإرهابية هو القضاء على الحياة الغربية في جوانبها الثقافية والاقتصادية والسياسية والتجارية وإزالتها من على الأرض. ومن ناحية أخرى هناك فعلا صلة بين اعتداءات لندن وما يحصل في العراق وأفغانستان، فهي جاءت في سياق الثمن الذي ندفعه لمحاربة الإرهاب والقضاء على شآفته سواء كان على شكل حكم ديني متزمت يصدر فظاعته خارج حدوده، أو كان على شك