تركتنا تفجيرات لندن حيارى مذهولين، كما سبق أن فعلت ذلك تفجيرات مدريد وبالي و11 سبتمبر، وما أدري ولا أدري من أحداث العنف، وأعمال الانتحاريين والمفخِّخين. ويرجع ذلك إلى أننا نحبُّ في كل مرةٍ أن تهدأ الأمور، ونتمنى أن يكون هذا الفزع آخِر الأهوال والأَوجاع. لكن هذا الخوفَ والتغافل نفسه، هو الذي يدفعُ أولئك الانتحاريين لتكرار عملهم بالوتيرة نفسها، وبالمقاصد نفسها: إرعابنا وإرعاب العالم ولا شيء غير!
نحن اليومَ خُمس سكّان العالم، وأمنُنا مرتبطٌ بأمنه، والعالم محتاجٌ إلينا كما أننا محتاجون إليه. لكنّ العالم أشدّ حرصاً منا على أمنه واستقراره ورفاهه. فهناك تحولاتٌ كبرى سارعت كبار أُمم العالم إلى مواجهة تحدياتها بالانفتاح وبالابتداع وبركوب الصعاب، من أجل استيعاب التغييرات الجذرية، ومن أجل الإفادة منها، ومن أجل فتح آفاق المستقبل استناداً إلى منجزات الحاضر. ولذلك يتوجَّهُ الجميع- وبخاصةٍ الدول الكبرى- للمشاركة في هذا المسار الهائل للتقدم وللتنافُس فيه وعليه، ولبلوغ الندّيّة المُخْرجة من القلق والفقر وقلة الحيلة. ولهذا ينزعجُ هؤلاء أشدَّ الانزعاج عندما يتهدد أمنهم، لأنّ مشكلة الأمن الداخلي قضيةٌ لها أَولويةٌ في كل بلد، وهي عندما لا تجدُ حلاً سريعاً لها، تتهدد قدرة تلك البلدان على التركيز في مواجهة المتغيرات، وفي صنع المستقبل الواعد والماجد. إذ كيف يستطيع المواطنُ أو السياسي الذي يصارع من أجل مستقبل الاتحاد الأوروبي، ومن أجل الفوز في المنافسة في السوق العالمية المتلاطمة الأجواء والأمواج، أن يتحدى الصينيَّ والأميركيَّ، وهو خائفٌ على أمن مواطنيه، وعلى استمرار حياتهم العادية المكافحة؟! وكذلك الأمر مع الياباني والصيني والروسي والهندي... الخ.
لقد ارتعبوا أو ارتعب عقلاؤهم أكثر منا بكثير، عندما كتب "هنتنغتون" كتابه التحذيري "1993-1996" من عدوانية الحضارة الإسلامية. فصراع الحضارات، وصراع العساكر، قضيةٌ من قضايا الماضي، وقضيةٌ من قضايا الحروب الباردة والساخنة، وقد اعتقدوا جميعاً أنّ هذه أمورٌ جرى تجاوُزُها، ويأتي هنتنغتون لينذرهم أنَّ الصراع مستمرّ، وأنّ الخصمَ فيه اليوم أخطر، لأنه خصمٌ ثقافيٌّ وديني، وليس إنجازاً صناعياً آسيوياً مثلاً، يمكن تجاوُزُهُ بالاستثمار في البحوث، والاستثمار في التعليم، والاستثمار في إيجاد نظامٍ عالميٍ أكثر أمناً وإنسانية. الغرب الأوروبي والأميركي، ليس منظمةً خيرية، وهو يعرفُ حقائق القوة، وقد عاش في حروبٍ ساخنةٍ أو باردةٍ طوال قرون. ولذلك فهوغير مستعدٍ للعودة إلى تلك العهود والظروف المؤْسية والمحبطة. ومن الذي أو الذين يعيدونه إلى تلك الذكريات؟ شبانٌ لا يتجاوزُ عددُهُم آلافاً قليلةً، ولا هدفَ لهم غير الانتحار، إنما ليس الانتحار الفردي المنعزل؛ بل الانتحار شبه الجماعي، وبالتفجيرات المدوية- لا لشيء إلاّ أن الشاب مزعوج- أو يشعر بالتهميش، ثم يدعي قبل ذلك أو بعده أنه إنما أراد من وراء ذلك تحرير فلسطين أو العراق أو الشيشان!
لا أعرفُ عربياً أو مسلماً عاقلاً، في السنوات الأخيرة، سوَّغ تفجيراتٍ مثل تفجيرات بالي أو الدار البيضاء أو الرياض أو مدريد أو لندن. لكنني أعرفُ كثيرين منا علماءَ ومثقفين حاولوا " فهم" ذلك من طريق استحثاث الغرب على حلّ مشكلة فلسطين، وفوضى العراق، وبقية القضايا السياسية والإثنية بين المسلمين وغيرهم من الأُمم. والاعتذاريون هؤلاء يعتقدون مخلصين في ذلك أكثر الأحيان- أنّ هؤلاء الشبان البنلادينيين أوغيرهم، إنما قاموا بهذا التفجير أو ذاك معاقبةً للأميركيين أو البريطانيين أو الإسبان أو الإيطاليين. والواقعُ أنه لا علاقة بما فعله هؤلاء ويفعلونه بأيٍ من تلك المشكلات، وإلاّ لتصدَّوا لهذه المشكلات كما يتصدى لها الفلسطينيون بفلسطين، والكشميريون بكشمير والشيشانيون بالشيشان.
ولستُ أقصدُ من وراء هذا الكلام الموافقة على هذا التصرف أو ذاك من تصرفات "المقاومين" وغير المقاومين؛ وإنما أقصِدُ أنّ باصات لندن ليست ساحات الكفاح المثالية لا للتصدي لتلك المشكلات، ولا للتصدي لحلِّها. وإنما هو مَرَضٌ ناجمٌ عن وعيٍ مغلوط، وإحساس بالفشل الفردي، والضعف الفردي، بحيث يكون الموتُ هو العلاجُ الذي لا علاجَ غيره. وقد قام مجانين دينيون بالولايات المتحدة بتنظيم عمليات انتحار أو قتل جماعي من أجل هذا الاعتقاد أو ذاك؛ فلم يقل أحدٌ إنّ على الدولة الأميركية أن تغيّر من سياساتها الاجتماعية أو الاقتصادية أو الصحية، لكي يتوقف أمثال ديفيد كورش عن الانتحار! ولذا فالمشكلة التي تتهددُنا بالدمار: انتحارية بعض شباننا، ومحاولة التعظيم من شأن هذه الانتحارية بدفع آخرين أبرياء معهم إلى الهاوية، غير شاعرين بالمسؤولية عما سيحدُثُ لأُسَرِهم ولبني قومهم، ولأهل دينهم في تلك المجتمعات التي أصابوها بالصدمة والفجيعة والكُفران! والمشكلة الأخرى التي تتهددنا بالدمار: هذا الوعي الاعتذاري العاجز الذي يُصرُّ على الهروب من المسؤولية بالتماس الإعذار، بطرائق غير واعية،