حطت بي الطائرات في مطارات عربية وآسيوية وأوروبية, منها مطار هيثرو الدولي، الذي أنهكتني مساراته الطويلة، ليستقر بي المقام بعد رحلة تجاوزت السبع ساعات في مدينة لندن. تلك المدينة الهادئة الوديعة التي تنام في أحضان الطبيعة الساحرة لتصحو صباح كل يوم بوجه مشرق وفكر مستنير, وفي الوقت نفسه تفرد ذراعيها لآلاف الناس عرباً وعجماً. كنت في زيارتي الأولى, قبل أكثر من عشر سنوات, أتوجس خيفة من العيش في مدينة يلفها الضباب, كما تخيلت كم سأعاني من ما يسمونه بالتمييز العنصري؟. بيد أن توجسي لم يصادف أهله, سيما وأنني شعرت ومنذ الوهلة الأولى أنني أقيم في مدينة باردة الطقس, دافئة المشاعر وأتعامل مع شعب متحضر, يعاملك بمنتهى الرقي والأدب والاحترام, يشكرك لأقل معروف, ويفسح لك المجال لأنك غريب في بلده, يعتذر منك إذا تجاوزك في الطريق دون قصد. وإذا أخطأت في حقه جاء رد فعله رزينا وخجولا بلا انفعال أو صراخ، مثلما حدث مع التفجيرات الأخيرة التي أثبتت أن الإنجليز هم الأقدر على كبح جماح مشاعرهم عند الغضب، وهم الأكثر هدوءا وقت الإنفعال.
من هذا المنطلق علينا أن نتأمل في هذه الصفات, وكيف سيكون رد الفعل إذا كانت هذه التفجيرات في عاصمة أخرى من عواصم العالم التي تلقي باتهاماتها شرقا وغربا بلا تحفظ أو روية، إضافة إلى هذا التأمل علينا أن نصحح ما ترسخ في أذهاننا من مقولات تفسر رزانة الشعب البريطاني بـ"البرود الانجليزي"، وأن نسأل أنفسنا: لماذا جاء رد فعلهم هادئا متأنيا رغم الجراح المثخنة والدماء التي مازالت تتدفق من مترو الأنفاق؟
حقا إنه سلوك حضاري يعكس العظمة التي وصلت إلى قمتها بريطانيا، الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس, وفي هذه العجالة علينا أن نخلع قبعاتنا تقديرا واحتراما لهذا الشعب الذي يؤمن بحرية الأديان وحوار الحضارات والتماهي بين الثقافات, وفي الختام أوجه صادق التعازي للشعب البريطاني وكل الجاليات التي وجدت في بريطانيا العظمى ملاذا أخيرا لها ولأبنائها.
عواطف إدريس- أبوظبي