يحق لنا في السودان أن نسمي الأسبوع الماضي, أسبوع جون قرنق الذي أصبح الحاكم الأول لجنوب السودان وصار لأول مرة، بوصفه الرقم الثاني في حكم الشمال بأسره.
جاء الخرطوم قبل يوم واحد من تنصيبه نائباً أول لرئيس الجمهورية واحتشدت الجماهير لاستقباله بأعداد لم تشهد مثلها العاصمة السودانية إلا نادراً. كان الجمع شاملاً للشماليين من كل أقاليمهم وللجنوبيين الذين جاؤوا الشمال هرباً من الحرب. قدر البعض العدد بمليون من البشر, وقال آخرون إنه أكثر من ذلك. كان اللقاء في حرارته وحميميته أشبه بالاستفتاء على أن أهل الشمال يريدون الوحدة مع الجنوب ولا يقبلون ببديل عنها.
لم يلق قائد جنوبي من قبل ما لقيه قرنق. وما كان له أن يلقى كل هذا إلا لأنه طرح برامج وسياسات يصبو لها أبناء السودان, وأولها تمسكه بالوحدة ثم التزامه بالانتقال بالسودان إلى رحاب الديمقراطية وإطلاق الحريات والارتقاء بالوطن, وإنهاء الحكم الأحادي وبناء جمهورية جديدة تختلف عن تلك التي بدأت عام 1956.
في اليوم التالي لوصول قرنق الخرطوم, بدأت المرحلة الانتقالية حسب ما نصت عليه الإتفاقية, واكتمل عقد المجلس الرئاسي للدولة المكون من الرئيس البشير ونائبه الأول الدكتور قرنق ثم النائب الثاني علي عثمان طه، وبدأت بعد ذلك بشائر العهد الجديد، وأولها إلغاء حالة الطوارئ إلا في مناطق الاضطراب مثل دارفور. وكانت حالة الطوارئ هذه مفروضة منذ اليوم الذي قفز فيه الإسلاميون للحكم, وكانت تعني الاعتداء على الحريات. وتبع ذلك رفع الرقابة عن الصحف. وكانت الصحف حتى التاسع من هذا الشهر تمنع من نشر وقائع وأحداث بالغة الأهمية, رغم أن الناس يشاهدونها عياناً.
لقد عانت الصحافة السودانية عموماً من وضع كان يذكرنا ببعض أساليب الفاشيست في البلدان التي حكموها، وحق الآن للصحافة السودانية أن تبتهج بعهدها الجديد وتحسن استغلاله فيما يحقق الوحدة والاستقرار وسيادة حكم القانون التي غابت طويلاً حتى أوشك البعض أن ينساها تماماً. ولكن يبقى الكثير مما لا بد من معالجته وإصلاحه.
فهناك عشرات القوانين التي تتعارض مع الدستور وتذبح الحريات. وهناك عدد من المعتقلين السياسيين ما زالوا خلف الجدران. وهناك الهيئة القضائية التي لا بد من إعادة تشكيلها ليكون القضاء مستقلاً. وهناك جهاز أمن الدولة وعدد من الأجهزة المماثلة التي تحمل أسماء أخرى والتي يلزم أن تكون خالصة لخدمة الوطن ولا شيء سواه. وهناك الظلم الذي وقع على عشرات الألوف من المواطنين من رجال الخدمة المدنية ونسائها، وكذلك رجال القوات المسلحة وقوات الشرطة، مظالم يجب أن تعالج وتعاد الحقوق لأهلها.
أما الخراب الذي لحق بجوانب أخرى خلال حكم الإنقاذ فهو أيضاً يحتاج للنظر في أمره. ومن ذلك ما لحق بمؤسسة السكك الحديدية السودانية وبمشروع الجزيرة وبالصناعة التي كانت واعدة في يوم من الأيام, وأهمها صناعة النسيج, وكذلك الصحة والتعليم في كل مراحلهما.
المهمة عسيرة ومعقدة وأول ما تحتاجه هو الصبر والمثابرة. لقد بدأ عهد جديد في السودان, ولكن تبقى حقيقة أن حزب (الإنقاذ) ما زال مسيطراً على أغلبية مقاعد الحكم, وهذا ما يجعل تضافر كل الجهود من معارضين حاليين أو واقفين على الحياد ضرورة تحتمها وتقتضيها الرغبة الوطنية الصادقة في بناء عهد جديد وإنشاء جمهورية ثانية وفق التعبير الذي يردده الدكتور قرنق.