هل تدفع الأحداث الدامية التي تجري في العراق والقتل اليومي الذي ينقل على شاشات الفضائيات ويتصدر عناوين الصحف, الأميركيين إلى الشعور بنوع من الانزعاج وعدم الارتياح؟، وبأن كل تلك الأحداث العنيفة سبق وأن شاهدوها في الماضي؟. هل يشعر الأميركيون بأنهم سبق وأن خضعوا لنفس عملية التضليل في السابق, حيث أسلحتها الأساسية كانت حزمة من الأكاذيب والافتراءات كتلك التي لفت عملية الحرب على العراق؟
يحاول العديد من الأميركيين اليوم بمن في ذلك مؤلف هذا الكتاب نورمان سولمون أن يزيحوا تلك الغشاوة الكثيفة التي تحجب الرؤية الواضحة عن الأميركيين وتجعلهم معرضين دائما لنفس التضليل الذي تمارسه عليهم حكوماتهم, وتتواطأ معهم في ذلك وسائل الإعلام التي غالبا ما تبرر الحرب وتصورها على أنها شر لا بد منه.
فمنذ أن تعرض الأميركيون لأول تضليل وانساقوا وراء حرب فيتنام التي كانت تعدهم بأحلام وهمية وهم يسقطون المرة تلوى المرة في التضليل. ويلاحظ المؤلف أن مزاعم نشر الحرية تلك هي نفسها التي تسوقها الإدارة الأميركية في حربها على العراق. واللافت للنظر بالنسبة للمؤلف أن الشعب الأميركي يبدو غير منتبه لتكرار نفس المبررات التي تستعملها أميركا في حروبها. تلك الحروب التي يصفها المؤلف بالسهلة, بالنظر إلى قوة الآلة العسكرية الأميركية الهائلة التي تتفوق على أية قوة أخرى على وجه الأرض.
ويخشى نورمان سولمون أن يكون الشعب الأميركي مشاركا هو الآخر ومتواطئا مع السياسات الرسمية الحكومية التي تخوض الحروب باسمه وباسم الدفاع عن قيم الحرية وطريقته في الحياة. ولا يكف السياسيون وبعض رجال الفكر عن التشديد على تلك القيم, وذلك في إطار سياسة مدروسة ترمي إلى تخويف الشعب الأميركي وإقناعه بأن الآخرين يريدون تدمير أكثر الأمور حميمية إليه وهي تلك المتعلقة بأسلوب حياته.
لكن المؤلف يرى أن ذلك الخوف لا مبرر له ويجب ألا يظل ذريعة توظفها الإدارة الأميركية كلما أرادت أن تدخل حربا أخرى. وقد كان المؤلف واضحا عندما وجه لومه إلى جهتين أساسيتين حملهما مسؤولية ممارسة التضليل وخداع الشعب الأميركي، وهاتان الجهتان هما الإدارات الأميركية المتعاقبة التي درجت على إخفاء الحقائق, ووسائل الإعلام ومراكز الأبحاث والدراسات التي تطبل لتلك السياسات وتسوغها بأقل الحجج منطقية مستغلة خوف الناس كما حصل في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر.
وينتقل الكتاب إلى موضوع حساس ومهم للغاية يعتبره المؤلف الأساس الأخلاقي الذي يحكم السياسية الأميركية، وهو الضمير الذي يعلي المؤلف من شأنه ويدعو الأميركيين إلى إعادة إدماجه في سلوكهم السياسي، وبخاصة في العلاقات الأميركية مع الخارج. ويسعى الكتاب كذلك إلى تحذير الأميركيين من مغبة الركون إلى وسائل الإعلام على اعتبار أنها تمارس دور المراقب لأداء الحكومات وسياستها الخارجية. ولتبيان ذلك يضرب مثالا بما حصل معه مباشرة قبل الحرب حيث كان ينوي تقديم برنامج معارض للحرب بالمشاركة مع أحد الإعلاميين المرموقين على شاشة "إن.بي.سي" لكن البرنامج تعرض للإلغاء في آخر لحظة عندما وصلت الأنباء أن الحكومة ستشن الهجوم على العراق.
ويريد الكاتب أن يوقظ الضمير الأميركي من سباته الذي تحاول وسائل الإعلام إدامته حتى تمرر الإدارات المتعاقبة سياساتها العدائية تجاه بعض الدول. وهو يعبر في هذا الإطار عن صدمته لما يبديه الجمهور الأميركي من انفصال تام عن الأحداث الدامية التي ترتكب باسمه في الحروب، وبشكل خاص عندما تكون ممهورة بختم موافقته حيث يقول "إن الطبيعة المخادعة والذرائعية لما يسمى بالبراءة الأميركية كانت دائما تقنع نفسها بأنها تجهل ما كانت تعرفه في الحقيقة جيدا". ويبدو واضحا أن الطبيعة المخادعة للبراءة الأميركية هي تعبير آخر عن غياب الضمير لدى وسائل الإعلام وانسياقها وراء الرواية الرسمية للأحداث. والأكثر من ذلك قيام المفكرين في مراكز الأبحاث بالتأسيس النظري للحروب.
وبالرغم من اندهاشه بداية لعدم استفادة الأميركيين من الحروب السابقة التي أثبتت بشاعتها وفشلها كحرب فيتنام، إلا أنه لا يتوانى عن تحليل الأسباب التي تعزى في نظره إلى الرغبة الدفينة لدى صناع السياسة في البيت الأبيض في تجاوز الأخطاء التي حدثت في فيتنام. وقد أثر ذلك على الاستراتيجية الحربية في حرب الخليج التي لم تعتمد على القوات البرية للقيام بالعمليات العسكرية الأساسية، بل رأينا ارتكازا شبه كلي على سلاح الجو الأميركي مما يدل على أن حرب فيتنام مازالت راسخة في وعي الساسة الأميركيين.
غير أن الحرب التي تبدو سهلة في البداية بسبب التفوق التكنولوجي الكبير والاختلال السافر في موازين القوى لصالح الآلة العسكرية الأميركية، سرعان ما يتحول إلى فشل ذريع بعد إعلان انتهاء القتال رسميا والشروع في العملية السياسية، وهذا ما يتكشف في الحالة العراقية بوضوح تام. فحتى بعد مرور سنتين على اجتياح العراق وإلحاق الهزيمة بصدام حسين، الذي لم تحارب قواته قط, مازال التعثر مس