لا تعي الذاكرة مثيلاً للاستقبال الجماهيري الضخم والكبير الذي قابلت به الخرطوم "زعيم المتمردين" العقيد جون قرنق العائد إلى عاصمة بلاده بعد غياب امتد إلى قرابة ربع قرن من الزمان, عندما غادرها إلى مسقط رأسه في جنوب البلاد عقيداً في قوات الشعب المسلحة، ليعلن من هناك حرب التحرير باسم الحركة الشعبية لتحرير السودان. لا تعي الذاكرة مثالاً أقرب في ضخامته العددية وحرارة عواطفه ومشاعره الإنسانية، سوى ذلك "الاستقبال التاريخي" الذي استقبلت به الخرطوم زعيم الحزب الاتحادي الديموقراطي السيد الميرغني عند عودته من أديس أبابا عام 1989 بعد أن وقع مع الدكتور جون قرنق رئيس الحركة الشعبية اتفاقاً بين الحزبين أصبح - بعد أن أقره البرلمان السوداني يومذاك - يعرف باسم اتفاقية السلام السودانية. يومذاك استقبلت الخرطوم "بطل السلام" الميرغني استقبالاً تجاوز الحدود والسدود الحزبية وشارك فيه السودانيون من مختلف الأحزاب والهيئات والأقاليم, وكان ذلك هو "التعبير السوداني" عن رفض الشعب للحرب المضنية وشوقه وتطلعه للسلام بين طرفي الوطن الواحد.
كان استقبال العاصمة الجماهيري الكبير للدكتور جون قرنق يحمل نفس المعاني ويعبر عن ذات التطلعات الشعبية. فقد استقبلت في شخصه "بطل السلام" الذي طالما تطلعت إلى تحقيقه وسعت من أجله سعياً حثيثاً ومتواصلاً. والحقيقة التي سيحفظها التاريخ للشعب السوداني انه وطوال سنوات الحرب الملعونة رفض وقاوم كل محاولات تحويل حرب الجنوب إلى "حرب أهلية" تدور رحاها بين المواطنين العاديين باسم الدين أو العرق. وهذا الموقف الواضح من الحرب ومن محاولات تحويلها إلى "حرب أهلية" هو الذي جعل التوصل إلى اتفاق السلام وإنهاء الحرب ممكناً، وهو الذي سيجعل استمرار السلام المستدام ممكناً أيضاً. فالسلام الذي تحوطه وتحميه الإرادة الشعبية السودانية هو الضمانة الحقيقية لاستقرار السودان وأمنه، وهو أيضاً الضمانة الكبرى لتحقيق ونجاح "المشروع الوطني السوداني" لبناء السودان الجديد ومرتكزاته الوطنية في الوحدة الطوعية والعدل للجميع والتنمية والإعمار لكل السودان ولمصلحة كل السودانيين.
إن مرحلة جديدة في حياة السودان والسودانيين قد افتتحت صفحتها ببدء المرحلة الانتقالية، وهي مرحلة ليس من الحكمة التهوين أو التقليل من المصاعب التي ستواجهها. فالبلد الخارج من حرب طويلة ومنهكة سيواجه مصاعب اقتصادية واجتماعية كثيرة, ومهما كانت نوايا المجتمع الدولي صادقة والتزامات المانحين جادة في مساعدة السودان للخروج من حالته الراهنة البائسة وإعادة بناء وإعمار ما دمرته الحرب من بنى تحتية واقتصادية، فإن ذلك لن يتحقق ما لم يجمع السودانيون أمرهم ويوحدوا إرادتهم الوطنية للنهوض بمسؤولياتهم الجسام لتحقيق وتطبيق متطلبات مرحلة ما بعد السلام، وأول الجهد وأهمه يجب أن يتجه نحو تصفية مخلفات وإرث الماضي القريب على صعيد العلاقات الاجتماعية والإنسانية، وعلى صعيد جبهة العمل الثقافي التربوي الذي سيتحمل أعباء الدعوة والتبشير للسلام ومتطلباته وللوحدة الطوعية وشروطها المقررة بالتراضي والقبول المشترك.
لقد أحسنت الحكومة صنعاً بإعلانها إلغاء حالة الطوارئ التي فرضت على البلد منذ الثلاثين من يونيو 1989 (ألغيت حالة الطوارئ فيما عدا بعض مناطق دارفور وشرق السودان). وهي خطوة حميدة يجب أن تتبعها خطوات جادة أخرى نحو إعادة البلد إلى حياته الطبيعية لأن شرط النجاح في هذه المرحلة الحرجة هو أن يشعر الناس أن حياتهم قد عادت إلى سيرتها الطبيعية.