من الطبيعي أن تتصدر الولايات المتحدة الأميركية قائمة الدول التي تعنى باستشراف المستقبل، لأنها بعد أحداث سبتمبر 2001 أعلنت قيام الإمبراطورية الأميركية، التي تسعى إلى أن تحكم الكون منفردة، وذلك بحكم تفوقها العسكري الكاسح ومبادراتها التكنولوجية وقوتها الاقتصادية. وقد أصدر مجلس المخابرات القومي الأميركي في ديسمبر 2004 وثيقة بالغة الأهمية عنوانها "تخطيط المستقبل الكوني"، بنيت في جزء منها على مشاورات متعددة مع خبراء المنظمات غير الحكومية حول العالم. وتعود أهمية الوثيقة إلى أنها لا تتضمن فقط صورة مستقبل العالم كما تراها الأجهزة الحاكمة الأميركية، ولكن قراءتها بدقة تكشف كيف تحاول هذه الأجهزة من خلال آليات متعددة سياسية وعسكرية واقتصادية وثقافية، رسم ملامح المستقبل بما يتفق مع مصالحها القومية، كما تدركها في هذه اللحظة التاريخية جماعة "المحافظون الجدد" الذين سيطروا على الإدارة الأميركية في عهد بوش الابن، بل والذين رسموا المخطط الأصلي للهيمنة الكونية الأميركية قبل وصول الجمهوريين للسلطة!
ويتشكل "تقرير تخطيط المستقبل الكوني" من ملخص تنفيذي وبيان بالمنهج الذي اتبع في هذه الدراسة الاستشرافية تعقبه مقدمة وأربعة أقسام رئيسية: القسم الأول, عن تناقضات العولمة. والقسم الثاني, عن القوى الدولية الصاعدة. والقسم الثالث, عن تحديات جديدة للحكم الرشيد. والقسم الرابع والأخير, عن شيوع عدم الأمن في العالم. وينتهي التقرير بتوصيات سياسية يمكن تطبيقها بناء على ما جاء في الدراسة. ويلفت النظر أن كل قسم من الأقسام التي أشرنا إليها ينتهي بسيناريو مفترض، أي أن لدينا أربعة سيناريوهات.
بالنسبة لتناقضات العولمة يصوغ التقرير سيناريو يطلق عليه "عالم دافوس" إشارة إلى المؤتمر الذي يعقد سنوياً في دافوس ويجمع رؤساء الدول والحكومات وكبار الرأسماليين ومديري الشركات الدولية. وسيناريو "عالم دافوس" يقدم تصوراً مبناه كيف أن النمو الاقتصادي المتصاعد في كل من الصين والهند خلال الخمس عشرة سنة القادمة، يمكن أن يعيد صياغة عملية العولمة، لكي يعطيها بشكل متزايد وجهاً غيرغربي، مما سيغير من شكل الساحة السياسية.
ومن ناحية أخرى لدينا الموضوع الثاني وهو "القوى الدولية الصاعدة". وقد صاغ التقرير له سيناريو أطلق عليه "السلام الأميركي" وهو يرسم ملامح عالم تسيطر عليه الولايات المتحدة بعد تغلبها على التغيرات الجذرية التي يموج بها المناخ السياسي العالمي، مما يسمح لها بتشكيل نظام كوني شامل. والموضوع الثالث هو تحديات جديدة "للحكم الرشيد"، وتتمثل في وقف التقدم في مجال الدمقرطة الجارية في كل أنحاء العالم، وصعود "سياسات الهوية" إلى مقدمة المسرح. ولذلك يصوغ التقرير سيناريو ملفتا للنظر يطلق عليه "الخلافة الجديدة", ويعني بها إمكانية أن تؤثر حركة عولمية, وقودها سياسات الهوية المبنية على الدين, على العالم، مما يمثل تحدياً للمعايير والقيم الغربية كأساس للنظام العالمي.
ونأتي أخيراً للموضوع الرابع وهو "شيوع عدم الأمن في العالم" ويصوغ التقرير بصدده سيناريو يطلق عليه "دورة الخوف", ويعني بها المخاوف التي تتعلق بانتشار أسلحة التدمير الشامل لدرجة تدفع الدول إلى اتخاذ إجراءات أمنية واسعة النطاق لمنع اندلاع هجمات مميتة يمكن أن تخلق عالماً يسوده الخوف والفزع. ويبدو صدق هذا السيناريو لو تأملنا الأحداث الإرهابية التي وقعت في لندن مؤخراً، والتي سقط فيها أكثر من 60 قتيلاً و700 جريح. وقد تمثلت الخسائر الجسيمة التي نجمت عن هذه الأحداث ليس في الضحايا فقط، بل في الهبوط الشديد في أسعار الأسهم والسندات، وأهم من ذلك كله مناخ الفزع والرعب الذي سيطر علي سكان لندن. ووصلت رسالة الإرهاب إلى قادة الدول الثماني في يوم اجتماعهم، ومفادها أنهم لن يأمنوا على مجتمعاتهم لو استمروا في سياساتهم المجحفة. ومعنى ذلك أن سيناريو "شيوع عدم الأمن في العالم" أصبح حقيقة واقعة.
ولنلق نظرة على الطريقة التي تناول بها تقرير "تخطيط المستقبل الكوني" تناقضات العولمة.
يقرر التقرير أن هناك دراسة سابقة عنوانها "الاتجاهات الكونية عام 2015" وردت فيها أحكام خاصة بالعولمة مفادها, أن الاتصال المتزايد بين الحكومات والبشر والثقافات بفضل الثورة الاتصالية، والذي يعكس نفسه في تزايد تدفق المعلومات والتكنولوجيا ورؤوس الأموال والسلع والخدمات والبشر, يمثل مفتاحا أساسياً لفهم حركة العالم. غير أن التقرير الحالي يرى هذا الاتصال المتزايد باعتباره الاتجاه المحوري الذي سيهيمن على كل اتجاهات التطور في العالم 2020.
ويلاحظ التقرير أن دائرة العولمة اتسعت بشدة خلال العقدين الأخيرين من خلال سياسات التحرر الاقتصادي التي طبقتها كل من الصين والهند، وبحكم تعمق آثار ثورة الاتصالات الكبرى. ويتنبأ التقرير بأنه خلال الخمس عشرة سنة القادمة فإن النمو الاقتصادي سيستمر ويتزايد، وسترتفع معدلات الحياة العالمية، وسيتعمق الاعتماد الاقتصادي المتبادل. وسيؤدي ذلك في نفس الوقت إلى تغيير الأ