صباح لندني جميل لا يعكر صفوه منغص, ومجموعات السياح الخليجيين مازالت في مخادعها الباردة تغط في نوم لذيذ بعيداً عن حرارة صيف يوليو الأسود ويوليو الجمر والرطوبة بينما اللندنيون باختلاط أعراقهم وجنسياتهم وألوانهم وأطياف انتماءاتهم العقائدية والسياسية يدبون ساعين في الأرض متجهين إلى أعمالهم ومصالحهم. وما هي إلا دقائق وقبل أن تعلن دقات "بيج بن" اقترابها من الساعة التاسعة صباحاً اشتعلت لندن بحرائق الموت. كان صباحاً لندنياً مرعباً على حد وصف البعض, سقط فيه أكثر من خمسين قتيلا ومئات الجرحى وكبرت الحيرة واتسعت خريطة الحقد والغضب والكراهية. فقد جاء الموتورون ينثرون قملهم ونتانة ضمائرهم المريضة في العاصمة التي كانت وستبقى ملاذا لهم وهم يحتمون بها من جور الأنظمة وبطش الحكام وظلم ذوي القربى. اشتعلت محطات القطارات الأرضية وطار سقف الحافلة. لم يكن حدساً أو رجماً بالغيب ما جاء في ذلك اللقاء الذي نظمته الإدارة العامة لخدمة المجتمع في القيادة العامة لشرطة دبي, والذي أثراه تحليلا خبير إدارة الأزمات الدكتور محمد شومان إذ كان الفارق بين اللقاء والأزمة التي عاشتها الشرطة اللندنية والعالم لا يزيد على يومين. إن ما حدث في لندن وفق ما عرفه الدكتور شومان هو كارثة باعتبار الأمر نقطة تحول أو لحظة حاسمة في مجرى حياة الناس, وقد أدت إلى إرباك المجتمع اللندني تحديدا. وفي الكارثة تهديد للمصالح والأهداف الجوهرية خلقت حالة من الإرباك والقلق والتوتر والفوضى.
إن ترويع أهل لندن بمن فيهم المسلمون لن يكون الحل, ولن نستبق الأحداث لنعرف هوية القتلة. ولكن يبدو أن للفتنة صوتاً واحداً بغض النظر عن العقيدة. فهم متشربون بالحقد يستعذبون رؤية قطع اللحم البشري وهي تتناثر على الأرصفة, ويمسحون على لحاهم وهم يتنفسون كراهية وحقدا. خريطة الدم ليست فوق "بيج بن", وحدها ولكنها كانت بالأمس في الرياض وقبلها في الكويت ومدريد والرباط والقاهرة ونيويورك وبالي ومعظم هذه دول إسلامية وأهلها مسلمون أخيار يناجون ربهم ويستغفرونه خمس مرات في اليوم, ويؤمنون إيمانا شديدا بالقضاء والقدر خيره وشره, وبأن الله قد أمرهم بألا يقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق, ولا يزنون ولا يأكلون مال اليتيم, وأن الله سيحاسبهم كما يحاسب امرأة في هرة حبستها فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها طليقة تأكل من خشاش الأرض.
إن ديناً بهذه التعليمات الشفافة لا يمكن أن يسمح لمجموعة من القتلة أن يتاجروا باسمه وبحمل رايته خنجراً يشقون به صدور الأرامل ويحزون به أعناق الأطفال ويعقرون بطون الحوامل ويسبون الروميات والحبشيات والإيطاليات ويتخذونهن خليلات ومحظيات, ويعيدون المرأة المسلمة إلى عصور الجاهلية الأولى ويجلدونها أو يصلبونها في ملعب كرة القدم, بينما يزرعون القنب والخشخاش ويصنعون الهيرويين ويبيعونه لشراء أسلحة الدمار ورصاصات الغدر. لقد بحت أصوات وحناجر المثقفين العرب وخاصة اليساريين منهم وهم يحذرون من مغبة ونتائج تلك العلاقات النفعية بين بعض الأنظمة العربية ومريدي التوجهات المتمسحة بالدين والمدغدغة لعواطف البسطاء والسذج من أبناء الأجيال الجديدة في الوطن العربي. أجيال مصابة أصلا بصدمة قوية لا فكاك منها نتيجة لهول الكوارث القومية والهزائم العسكرية التي منيت بها جيوش كان ثمن رصاصها من عرق ودم وشقاء الإنسان العربي المسكين, الذي أفاق على واقع مر أليم. فهو متخلف تابع مهزوم مقهور, أمي في وطن ليس فيه مدارس. وعليل في وطن ليس فيه أسرة وأمصال. وفقير في وطن يسبح فوق محيطات من النفط وخيرات جادت بها الطبيعة, وهبة منحها الخالق. لكن كل هذه الثروة بددت أو نهبت أو سرقت أو قدمت كرشاوى أو إكراميات أو نقوط في حفلات الطهور وأعياد الميلاد. لقد فتح الجيل الجديد من أبناء الوطن العربي عينيه على واقع اقتصادي مر وخرائب سميت مصانع واقتصاديات هشة وأحلام في الوحدة والحرية والاشتراكية ووطن يمتد من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر, ولم يكن كل هذا إلا وهماً وأضغاث أحلام. أما الحقيقة فهي صدمة في الضمير والوجدان.
في هذه اللحظة الحاسمة كانت تيارات سياسية تحمل إيديولوجية دينية عاطفية قادرة على الإجهاز على البقية الباقية من فكر عقلاني, فانسحبت الجماهير بطواعية وانقياد عجيبين خلف المقولات العاطفية وبنت الأحلام. وتصدرت شركات مضاعفة الأموال المسيرة وصار وهم الإثراء حقيقة وكذبة لم يفق منها البعض إلا بعد أن خسر كل عقله وبعضا من ماله. واستطاعت هذه التوجهات أن تبتلع الميكروفون وتصادر التلفزيون وتحرق أوراق الصحف, وأن تسيطر على وزارات التربية وتتدخل في تأليف المناهج. وغدا ما عرف بالبترودولار وقودا مسيرا لحياة واتجاهات وقيم الناس. حتى المسلسلات الدرامية صارت تنتج وفق متطلبات وفكر الطرح الديني البترودولاري, مما طرح فكرا جديدا كان قادرا على ملء الفراغ الذي نشأ بسبب الانهيار الفجائي والمروع للمشروع القومي عقب هزيمة 1967.
كان هذا الفكر تعبيرا عن فكر تيار استطاع أن يملأ فراغا أكثر م