وضعت العنوان بهذه الصيغة ليس لأنني أعتقد بأن مصر لا تعرف هدف المخطط الإسرائيلي فيما يعرف بعملية السلام. لكن السياسة المصرية، ومن خلال دور الوساطة الذي تقوم به بين الفلسطينيين والإسرائيليين تترك الانطباع بأنه لا تأثير لهذه المعرفة على دور الوساطة المذكور. كأن القاهرة غير معنية، أو غير آبهة بتفعيل معرفتها بالمخطط الإسرائيلي، وتوظيفها كورقة تفاوضية. على العكس تبدو القاهرة معنية أكثر من أي شيء آخر بالتوصل إلى سلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين بأي ثمن، وإنهاء الصراع بأي شكل من الأشكال. وهنا يبرز السؤال عن السبب الذي يفرض على مصر أن تختزل دورها بدور وسيط لا تتجاوز مهمته تسهيل عملية التوصل إلى سلام بغض النظر عن طبيعة هذا السلام وحجمه وأهدافه. هل يعكس هذا هاجساً مصرياً بإثبات أن اتفاقية كامب ديفيد كانت خطوة ريادية مصرية مهما كان الثمن، ومهما كانت النتائج التي ترتبت عليها؟ إذا كان الأمر كذلك، فهو يثبت القول إن اتفاقية كامب ديفيد أصبحت عبئاً على مصر، ومن خلالها عبئاً على العرب، وخاصة الفلسطينيين، حتى وإن لم تتم استشارتهم فيه.
لم يعد سراً بأن إسرائيل تستخدم عملية السلام لتحقيق هدفين استراتيجيين: الأول الاحتفاظ بأكبر مساحة ممكنة من الضفة الغربية، والثاني فرض واقع جغرافي وديموغرافي في القدس الشرقية يسمح بتهويدها، وإفراغها من هويتها العربية، ومن ثم فرض واقع ضمها لتحقيق الهدف الإسرائيلي المعلن من أن القدس ستبقى موحدة وعاصمة للدولة العبرية. يتضح هذا من خطة الانسحاب من غزة، ومن بعض المستوطنات الصغيرة والعشوائية في شمال الضفة، ومن مصادقة الحكومة الإسرائيلية يوم الأحد الماضي على تسريع استكمال بناء الجدار العازل حول القدس الشرقية، والمعروف بـ"غلاف القدس".
الهدف الآن أن يكتمل هذا الغلاف في أول شهر سبتمبر القادم، أي بعد إتمام الانسحاب من غزة بأسبوعين أو ثلاثة. الانسحاب من غزة، وإخلاء بعض المستوطنات في شمال الضفة يمنح إسرائيل الغطاء للاستمرار في دعم وتوسيع الاستيطان في بقية الضفة. في العام الماضي حصلت حكومة شارون على اعتراف أميركي، ومن بوش شخصيا، بحق إسرائيل في الاحتفاظ بالكتل الاستيطانية الكبرى في الضفة، مما يؤكد، في أحسن الأحوال، نجاح سياسة الاستيطان في فرض الأمر الواقع على المفاوضات، وفي أسوئها، الاستعداد الأميركي للتواطؤ مع الإسرائيليين حول سياسة الاستيطان هذه وأهدافها. استكمال الجدار العازل حول القدس سيؤدي إلى فصل أكثر من مئة ألف فلسطيني من سكان القدس عن مدينتهم. وهذه خطوة كبيرة على طريق تهويد هذه المدينة المقدسة. ولأن هذا سوف يستغرق وقتاً ليس بالقصير، فإن شارون سيعمل، كما فعل سابقا, على عرقلة التوصل إلى سلام نهائي قبل اكتمال هذه العملية. مسألة عودة اللاجئين أصبحت أقل صعوبة مما كانت عليه في الماضي. المعضلة الحقيقية الآن هي القدس، والحدود بين إسرائيل والدولة الفلسطينية المزمعة. وكلتا هاتين القضيتين مرتبطتان بهوية القدس وبالاستيطان في الضفة.
القاهرة تعرف كل ذلك وأكثر، لكن سلوكها السياسي فيما يعرف بعملية السلام يوحي وكأنها لا تعير الأمر ما يستحقه من أهمية. الأسوأ من ذلك أن القاهرة لا تبدو مقتنعة بأن الاستراتيجية الإسرائيلية تتضمن الاحتفاظ بالضفة، وتحديدا بالقدس. ربما أنها تدرك ذلك، لكنها لا ترى فيه سببا يفرض عليها تغيير سياستها تجاه الدولة العبرية. هل هذا ممكن؟ يبدو الأمر وكأن مصر مطمئنة من هذه الناحية. لم نسمع أن القاهرة، مثلا، جعلت من الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية قضية محورية لدورها في التوسط بين الفلسطينيين والإسرائيليين. بل لم تصدر عن القاهرة إشارة واحدة تفيد بأن القدس بالنسبة لها خط عربي أحمر، وأنه لا يمكن لمصر أن تستمر في دور الوسيط في الوقت الذي تستمر فيه إسرائيل في تجاوزاتها لهذا الخط. على العكس التزمت مصر، ومنذ عهد الرئيس السادات، التعامل مع إسرائيل باعتبارها دولة طبيعية وليست دولة احتلال، أو تشكل بسياساتها التوسعية خطرا ماثلا. قبل أشهر وقعت القاهرة مع تل أبيب اتفاقية "الكويز". وفي الأسبوع الماضي وقعت اتفاقية نقل الغاز المصري إلى إسرائيل. في العلاقة المصرية الإسرائيلية لا يبدو أن هناك عقبات. من ناحيتها تتصرف حكومة شارون وكأن الدور المصري لا وجود له. تقرر الانسحاب من غزة، ثم يكون على مصر تسهيل هذه المهمة. تقرر بناء الجدار، أو اجتياح المدن، وتنفيذ سياسة الاغتيالات، وتوسيع الاستيطان، وهدم المنازل. أين الدور المصري في كل ذلك؟ لا أحد يعرف تماما، أو أن هذا الدور لا تتجاوز حدوده الطرف الفلسطيني.
من الصعب تصور أن مصر لا تدرك طبيعة حكومة أرييل شارون، وأن هذه الحكومة ليست معنية بالتوصل إلى سلام نهائي مع الفلسطينيين والسوريين في هذه المرحلة. لكن مرة أخرى سلوك مصر السياسي يوحي وكأنها متأكدة من أن نوايا وسياسات حكومة شارون على العكس من ذلك تماما. وإذا ما افترضنا هذا، فلماذا لا تبادر الحكومة المصرية وتقول للناس علنا ذلك، وتق