"الأحكام السلطانية"، كتاب مشهور لأبي الحسن الماوردي، وهو أول كتاب في الفقه السياسي إن جاز التعبير، يتم فيه الفصل بين الفقه الديني وتدبير السياسة من خلال أحكام تصدر عن السلطان، أي صاحب السلطة خليفة كان أم أميراً. جميع من جاء بعده من الفقهاء من أمثال الجويني وابن تيمية وابن جماعة اعتمدوا عليه في كتاباتهم الفقهية حول الأحكام السلطانية. بل إن القاضي الحنبلي ابن الفراء سرق الكتاب كله ونسبه إلى نفسه!
من جميع المؤلفات الفقهية في مجال ما يعرف بالسياسة الشرعية، يبرز الماوردي كأول وآخر فقيه يؤاخي في بين الشعر والفقه بتعبير الكاتب فهد الحارثي كما أوضح في كتابه الممتع "قال ابن عباس... حدثتنا عائشة". ولا يتسع المجال لتبيان حالات المؤاخاة بين الشعر والنثر والشعر والحديث الواردة بين دفتي الكتاب، ولذلك سنقتصر على شرح هذا التآخي من خلال كتاب الماوردي آنف الذكر، علماً بأن الماوردي من الفقهاء الذين يعتمدون على الجانب الأدبي لدى العرب، ألا وهو المتمثل في الشعر، ديوان العرب الذي تميزوا به بين الأمم، والميراث الحضاري الذي خفق نوره مع فجر الإسلام، ثم أصبح قطب رحى الحياة الأدبية في العصور الإسلامية، حيث استخدم الماوردي الشعر في كثير من كتبه مثل "أدب الدنيا والدين"، و"نصيحة الملوك" على سبيل المثال لا الحصر.
من خلال استعراض كتاب "الأحكام السلطانية والولايات الدينية"، أورد الماوردي مئة وواحداً وثمانين بيتاً من الشعر، في مقابل تسع وستين آية، وأربع وثمانين حديثاً نبوياً، الأمر الذي يدل على تمكن الماوردي من "الأدبي" أو الشعر. وقد استشهد الماوردي بشعر أربعة وخمسين شاعراً ما بين جاهلي وإسلامي ومخضرم مثل الأفوه الأودي وزهير بن أبي سلمى والشماخ بن ضرار وحسان بن ثابت، بل وحتى أبونواس وقيس بن حبابة وهو من الذين ارتدُّوا عن الإسلام، وكذلك شعراء اليهود. ومن الأمثلة الدالة على استشهاد الماوردي بالشعر لتفسير الفقه ما يلي:
- في الباب الأول من الكتاب "في عقد الإمامة"، لم يقدم الماوردي دليلاً شرعياً من نص ديني أو رأي فقهي، بل استشهد في أهمية الإمامة بما قاله الشاعر الجاهلي صلاء بن عمرو بن مالك المعروف بالأفوه الأودي، وهو من الأبيات المعروفة لدى العرب:
-لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهالهم سادوا.
ويلاحظ هنا أن الشعر قد حل محل النص الشرعي، وهو أمر نادر الحدوث لدى الفقهاء.
في معرض ذكره لقوله تعالى (يا داوود إنا جعلناك في الأرض خليفة فاحكم بين الناس بالحق...) كدليل على ضرورة قيام الحاكم بنفسه على مراقبة أمور الدولة. أيد الماوردي ودعم هذا النص القرآني بقول لقيط بن يعمر أو لقيط الأيادي:
-وقلدوا أمركم لله دركم ... رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا.
ويختم المقال في هذا المجال بما ورد في القرآن بالمنّ والفداء لأسرى الحرب كما في قوله تعالى: (فإما منّ بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها). جاء الماوردي بما يؤيد ذلك بفعل النبي (صلى الله عليه وسلم) حين سمع شعر قـُتيلة ابنة النضر بن الحارث صاحب لواء المشركين في معركة بدر بعد مقتله حيث قالت في خطابها للنبي (صلى الله عليه وسلم):
-يا راكبا إن الأثيل مظنةٌ ... من صبح خامسة وأنت موفق
ما كان ضرّك لو مننت وربما ... منّ الفتى وهو المغيظ المحنق
فقال النبي (صلى الله عليه وسلم)، "لو سمعت شعرها ما قتلته". ويعلق الماوردي على هذا بالقول: ولو لم يجز المنّ لما قال هذا لأن أقواله (صلى الله عليه وسلم) أحكام شرعية.
وكتاب الأحكام السلطانية، ثرٌّ بمضمونه الشعري على نحو فريد ندر حدوثه بين كتب الفقه السياسي.