سيدور الكلام في هذا المقال حول السؤال التالي: إلى أي حقل من حقول المعرفة ينتمي خطاب العولمة والهوية؟ هل ينتميان إلى العلم أم إلى الإيديولوجيا؟
وقبل الخوض في الموضوع لابد من تحديد ما نقصده هنا بكل من العلم والإيديولوجيا؟ لنبادر إلى القول إننا لا نقصد العلم كجملة معارف ولا الإيديولوجيا كجملة آراء، وإنما نقصد أولا وأخيراً منهج كل منهما في بناء عالمه المعرفي.
يقوم البحث العلمي على مناهج متعددة. والغالب أن يرجع تعددها إلى اختلاف موضوع البحث، منهج البحث في الرياضيات غيره في العلوم الطبيعية, وغيره في العلوم الإنسانية… وكذلك الشأن في الخطاب الإيديولوجي فهو بطبيعته خطاب متعدد بتعدد الأغراض التي يريد إقرارها أو خدمتها، وهي أكثر من أن تحصى. ومن أجل تجنب الخوض في مشاكل وإشكاليات جديدة، لا يتسع لها المقال، سنعمد إلى المقارنة بين الحقيقة العلمية والحقيقة الإيديولوجية (بدل المقارنة بين البحث العلمي والخطاب الإيديولوجي). وهذا انتقال مبرر ومقبول، باعتبار أن غاية البحث العلمي هي الوصول إلى الحقيقة العلمية، كما أن الهدف الذي يرمي إليه الخطاب الإيديولوجي هو إثبات ما يريد إثباته كحقيقة.
الحقيقة العلمية قوامها دعامتان: الموضوعية وإمكانية التحقق. المقصود بالموضوعية هو التعامل مع موضوع البحث كما هو، أي في استقلال عن آرائنا وعواطفنا، وذلك إلى الدرجة التي يصبح معها بالإمكان الاتفاق بين الباحثين على ما هو إياه ذلك الموضوع. فإذا قام اتفاق بيننا على أن هذا الشيء الذي أمامنا هو الشيء الفلاني وليس غيره، هو قطعة خبز وليس حجراً مثلا، قلنا إن علاقتنا المعرفية بهذا الموضوع علاقة موضوعية. والسؤال الآن هو: هل يمكن أن تقوم بيننا علاقة معرفية تربطنا جميعاً بكل من العولمة ومسألة الهوية، من جنس العلاقة التي تربطنا بكل من قطعة الخبز والحجر مثلا؟
هذا سؤال يطرحه البحث العلمي، أما الخطاب الإيديولوجي فلا يتحمله! والهوية والعولمة لا تتحملان هذا السؤال، لأن الكلام في كل منهما هو أساسا خطاب!
والخطاب رسالة من ذات إلى أخرى تنقل "حقيقة" يطلب من الذات المتلقية, ليس فقط أن تسلم بها, بل أيضاً أن تعمل بها. وإذن فالخطاب الإيديولوجي في موضوع "العولمة ومسألة الهوية" خطاب ينقل إلى المتلقي وجهة نظر يعتبرها صاحبها صحيحة ويطلب من المتلقي أن يعمل بها. يمكن أن يقول مثلا: "يجب أن نأخذ بالعولمة وننخرط فيها ونعمل في إطارها إذا نحن أردنا أن نعيش في المستقبل". وقد يضيف: "أما الهوية فهي تنتمي إلى الماضي". وقد يقول آخر: "يجب أن نقف في وجه العولمة لأنها تنطوي على غزو يمارسه الآخر علينا". وقد يضيف: "وهو غزو يتجاوز مستوى السلع والاقتصاد لأنه يستهدف الثقافة وبالتالي الهوية والكيان".
واضح أن هاتين الوجهتين من النظر تضعاننا أمام إشكال وليس فقط إزاء مشكلة. وما يجعلهما تعبران عن إشكالية أن ما تقررانه ليس من قبيل هذا أبيض وهذا أسود. هما تعبران عن رأيين مختلفين متعارضين فعلا، غير أنك إذا أخذت بأحدهما لا ترتاح راحة كاملة، بل يبقى الثاني يشوش عليك رؤيتك ويجرك إلى بحر من الشكوك الغامضة فتعيش حالة من التوتر الفكري. إن الأمر يبدو وكأن هذين الرأيين المتناقضين، على طول الخط، صحيحان معاً في وقت واحد. ومن هنا كان التوتر الذي ينجم عنهما من نوع التوتر الذي يبعثه في النفس الجمع بين النقيضين.
لقد تكرر الحديث في السنوات الأخيرة عن ضرورة "ترشيد" العولمة لتصبح نشاطاً تجارياً عالمياً يحترم مصالح الدول والخصوصيات الإقليمية والمحلية، الشيء الذي يعني نزع طابع الهيمنة الإمبريالية والليبرالية المتوحشة عن العولمة كما عرفتها السنون الأخيرة.
هذا الجانب لا يهمنا هنا. فالعولمة كنشاط اقتصادي "خالص" ليست من الظواهر التي تصطدم بمسألة الهوية. هذا من حيث المبدأ. ولكن هل هناك في عصرنا نشاط اقتصادي "خالص"؟ ثم أين تبتدئ "مسألة الهوية" وأين تنتهي؟
هذان السؤالان هما من بين الأسئلة التي تجعل من العلاقة بين "العولمة" و"مسألة الهوية" علاقة إشكالية بالمعنى الذي حددناه في المقال السابق. ذلك لأنه ما دمنا لا نستطيع أن نحدد بدقة حدود ظاهرة العولمة، حدودها الاقتصادية والثقافية والإعلامية... إلخ، ولا أن نرسم لـ"مسألة الهوية" إطاراً محدداً لا تتعداه، فإنه سيكون من الصعب وضع منحنى أو منحنيات للعلاقة التي يمكن أن تقوم بينهما. كل شيء ممكن في مثل هذه الحالة. وبالتالي فنحن لا نستطيع الوصول، بصدد العلاقة بين العولمة والهوية، إلى نتيجة نحس معها فعلا بالاستقرار الفكري، وإن حصل شيء من هذا فبسبب غفلة، سرعان ما تنقشع عن توتر أكبر.
لقد عرف الفكر العربي الحديث إشكالية مماثلة لم يهتدِ بعد إلى حل بشأنها يمنحه ما هو في حاجة إليه من الاستقرار الفكري. هذه الإشكالية هي ما كان وما يزال يدعى بـ"إشكالية الأصالة والمعاصرة". ولقائل أن يقول: أليست إشكالية "العولمة ومسألة الهوية" سوى مظهر من مظاهرها، مظهرها الجديد الذي فرضه التطور علينا؟
والجواب: