صباح الخميس الماضي أعاد الإرهاب التذكير بنفسه مرة أخرى، ومد يداً تقطر من دماء الأبرياء، وضرب ضربة رعناء غادرة من خلال سلسلة انفجارات مروِّعة في وسائل مواصلات العاصمة البريطانية لندن، مخلفاً بذلك عشرات القتلى ومئات الجرحى، وآلاف بل ملايين المروَّعين، من البريطانيين، ومن الأجانب أيضاً، ممن لا ذنب لهم جميعاً سوى أنهم كانوا متَّجهين في تلك اللحظة المشؤومة، إلى أماكن عملهم أو إلى مشاغل حياتهم العادية الكثيرة. كان ذلك اليوم هو اليوم التالي لاختيار مدينة لندن لتنظيم ألعاب أولمبياد 2012، وكانت أجواء النصر والروح الأولمبية العالية هي السائدة بعدما ربح الإنجليز رهاناً ماراثونياً سعوا إليه بكل جهد وحزم وسط منافسين كثرٍ، وكان رئيس الوزراء البريطاني توني بلير يفتتح في نفس الوقت قمة مجموعة الثماني المخصصة لمساعدة الدول الفقيرة، ولكن الإرهابيين أبوا إلا أن يحوِّلوا الاحتفالات إلى مآتم، والآمال إلى آلام، مسيئين بذلك في لحظة من لحظات الغدر الرهيبة إلى مبادئ التعايش السلمي الأخوي بين مختلف الأمم والدول والشعوب، كما حض على ذلك ديننا الإسلامي الحنيف، الذي هو المتضرر الأول في سمعته من جرائم هؤلاء.
وبسرعة، وكما توقع الجميع، لم ينقشع دخان الانفجارات ولم ترقأ دماء الجريمة، حتى تسابقت منظمات إرهابية كثيرة، إلى تحمّل المسؤولية عنها. وترددت أسماء من قبيل "تنظيم القاعدة في أوروبا"، و"كتائب أبو حفص"، وغيرها ليتم بذلك ربط هذه الجريمة بكل ما هو عربي أو مسلم، على الأقل في أذهان الضحايا، وفي أذهان المواطنين الغربيين الذين لا تهمهم السياسة التي تتبعها حكوماتهم، ولا يتحملون مسؤوليتها كائنة ما كانت، صائبة أم خاطئة. لقد أفسد هؤلاء بفعلتهم الشنيعة عقوداً مديدة من الزمن، وكثيراً من الجد والجهد والعرق، بذله ملايين العرب والمسلمين المقيمين في أوروبا، والذين لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه الآن، إلا بعد جهد جهيد، وكدٍّ لا يوصف، وها هم يتحولون فجأة في عيون جيرانهم، وإخوانهم في الإنسانية، إلى مشبوهين جميعاً حتى إشعار آخر، بعدما أفسدت الأيادي الآثمة كل ما بنوه في لحظة جنون واحدة، دون تعقل ودون تفكير في العواقب.
ولن يقتصر الغضب من كل ما هو عربي ومسلم على شعوب الدول الغربية، بل ستسري النقمة سريان النار في الهشيم في شعوب الدول الإفريقية والدول الفقيرة الأخرى الكثيرة التي كانت تتطلع إلى قمة الثماني باسكتلندا لتخفيف عبء الديون عن كاهلها، ولكن بساط الاهتمام سُحب فجأة للأسف من تحتها واتجهت الأنظار كلها إلى هجمات لندن وضحاياها.
لقد أصبحنا كعرب وكمسلمين في أشد الحاجة إلى أن نرفع اليوم أصواتنا عالياً أمام شعوب العالم أجمع للتبرؤ من ممارسات هؤلاء الذين يبددون البقية الباقية من فرص التعايش السلمي بيننا وبين شعوب العالم. وقد أمرنا ديننا الحنيف بأن نتعايش مع غيرنا بالتي هي أحسن، وأن نتجاور ونتحاور مع الآخرين بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن نتجنب أولا وآخراً الاعتداء على الأنفس المعصومة، فأين هذه القيم السمحاء، والمبادئ الإنسانية الراقية من ممارسات هؤلاء؟
إن على الفقهاء ورجال الدين وأصحاب الرأي والأقلام الهادفة الحاملة للهم العربي العام، في عموم الدول العربية والإسلامية، أن يسعوا جميعاً لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من سمعة هذا الدين، من ممارسات هؤلاء. ولن يتم ذلك إلا بتحجيم هؤلاء القتلة فكرياً، وكشف زيف ادعاءاتهم، وفضح ممارساتهم، وتعريتهم على الملأ، وقطع الطريق عليهم باستئصال شأفة الدعوات الظلامية التي يتولونها، بقليل من الشجاعة والشرف، وبكثير من الغلو والتنطع والجهالة.