هل للحقيقة أهمية في الحقل السياسي, وهل لنا أن نبدي اهتماماً بطعم المرارة الطاغي على حوارنا القومي العام؟ إن الإجابة القاطعة على كلا السؤالين هي نعم بالتأكيد. غير أن موجة الغضب العارمة, التي وسمت ردة فعل بعض المحافظين إزاء التصريحات التي وردت على لسان السيناتور ريتشارد ديربن مؤخراً, حول إساءة معاملة السجناء والأسرى في سجن جوانتانامو, تؤكد أن الطريق لا تزال أمامنا طويلة, قبل أن تكون تلك الإجابة, قاطعة بالفعل. وعلى الرغم من أنني كنت قد كتبت من قبل في السابع والعشرين من شهر يونيو المنصرم, عن الهجمات التي تعرض لها السيناتور ديربن, إلا أنه لا تزال هناك جوانب مزعجة من هذه القصة, تلزمني بالعودة إليها مرة أخرى.
وبوجه خاص, فإن الجانب الأكثر إثارة للانزعاج والقلق في حملة الهجمات المسلطة على السيناتور المذكور هذه, ذلك المتعلق باختلاق القصص وتهويلها والمبالغة فيها, وهي اختلاقات متعمدة, قصد منها صب النار على الزيت, وإثارة الغضب على السيناتور, بهدف تحقيق مكاسب سياسية أو حزبية ضيقة. فكما جاء على لسان كارل روف, المستشار الأول بالبيت الأبيض, أثناء مخاطبته لحشد هتافي متحمس من جماهير المحافظين في نيويورك, فقد جرى تصوير تصريحات السيناتور ديربن على النحو التالي: وهل ثمة لحظة كاشفة للحقائق هذا العام, أكثر من هذه اللحظة؟ دعني أصوغ لكم ما أود قوله بهذه البساطة: فقناة الجزيرة اليوم, تنقل عن السيناتور ديربن ما قاله بالحرف, وتبثه كما هو وعلى لسانه إلى جميع مشاهديها في الشرق الأوسط! ومما لا شك فيه أن تلك التصريحات تعرض حياة وسلامة أي جندي من جنودنا هناك لخطر كبير. وبعد فهل هناك حاجة لقول المزيد عن دوافع ونوايا الليبراليين؟.
وسرعان ما تحولت هذه العبارة الأخيرة عن تعريض ديربن لحياة جنودنا في الشرق الأوسط للخطر, بسبب تصريحاته التي تبثها قناة الجزيرة, إلى لازمة جمهورية, يجرى ترديدها وتكرارها عبر كل وسيلة من وسائل إعلامهم دون كلل أو ملل. ويذكر أن هذه العبارة كانت قد وردت أساساً على لسان نيوت جنجريتش, الناطق الرسمي السابق باسم البيت الأبيض, في حديث أدلى به إلى شبكة "فوكس نيوز" الإخبارية في التاسع عشر من شهر يونيو المنصرم. فقد ورد على لسان جنجريتش قوله "لقد ظلت قناة الجزيرة وعلى امتداد عدة أيام, تكرر بث تلك التعليقات المنسوبة إلى ديربن, الأمر الذي صب زيتاً ساخناً على نار الغضب العربي الإسلامي المشتعلة أصلاً ضد الولايات المتحدة الأميركية في المنطقة".
لكن ولدى التمعن في الحقائق وإخضاعها للاختبار والتدقيق, فقد تبين أن قناة الجزيرة لم يحدث لها مطلقاً أن بثت تصريحات السيناتور ديربن نفسها. كما اتضح أن كل الذي رآه جنجريتش على الموقع الإنجليزي لقناة الجزيرة, هو طلب البيت الأبيض من السيناتور ديربن, تقديم اعتذار عن التصريحات المنسوبة إليه. تلك هي القصة الوحيدة الموجودة في موقع الجزيرة عن هذا الموضوع! ولما كانت هذه هي الحقيقة العارية والوحيدة في كل ما قيل عن بث القناة لتصريحات ديربن, وعن تأثيراتها الخطيرة على حياة جنودنا في منطقة الشرق الأوسط, فلعل الإجابة الوحيدة المنطقية على السؤال الذي طرحه كارل روف آنفا: "وهل من لحظة كاشفة للحقيقة هذا العام, أكثر من هذه اللحظة؟ هي الحقيقة التي تكشف النقاب عنها, والمتمثلة في فضح المدى الذي يسهم به التهويل والاختلاق والمبالغة, في إلهاب مشاعر العداء والخصومة, والحض على إخراس كافة الأصوات الجريئة الحرة, المناهضة لسياسات الإدارة الأميركية الحالية. والشاهد أننا نعيش اليوم في عالم محفوف بالمخاطر, وأن الانتقادات التي وجهها السيناتور ديربن لإساءة معاملتنا لسجناء وأسرى جوانتانامو, لم تضف شيئاً إلى خطورته. إنما يزيد هذه الخطورة بالفعل ويضاعفها, أولئك الذين يتعمدون تسميم الحياة والسياسة والحوار العام في بلادنا, بأساليب الحض والتحريض والاختلاق وتهويل الأمور وتشويهها.