لم أصب بأدنى دهشة لدى قراءتي للدراسة الأخيرة, التي مولتها الحكومة حول الصحة العقلية للمواطنين الأميركيين. فقد أشارت هذه الدراسة إلى أن نصف الأميركيين تقريباً, سيصابون في مرحلة ما, بالأمراض العقلية. كما أشارت إلى أن أعراض الأمراض هذه, تبدأ من وقت مبكر من العمر. وعلى رغم علمي بأن هذه الأرقام مضخمة ومبالغ فيها بقدر ما, إلا أنني وبصفتي طبيبة ممارسة في إحدى عيادات الأمراض النفسية ,على امتداد العشرين سنة الماضية, فإنه ليس لدي أدنى شك في أن زيادة حقيقة, قد طرأت على عدد الأفراد الأميركيين الذين يعانون من تقلب الحالات المزاجية, والقلق والاضطرابات النفسية. وفي ظني أنني أدرك سبباً واحداً رئيساً لتنامي مثل هذه الأعراض. فحين أستمع إلى مرضاي وما يسردونه علي من قصص, إلى جانب ما يحكيه زملائي الاختصاصيون الآخرون في المجال, أصل إلى استنتاج وحيد لا أرى غيره, ألخصه في أن التكنولوجيا –التي تعد نعمة عصرنا ونقمته- قد أثرت على وجدان البشر وأجسادهم وعقولهم, على نحو ما عادوا قادرين فيه على التكيف مع أنفسهم. ولا تنحصر المشكلة في أن الراشدين والمراهقين والأطفال على حد سواء, باتت ساعات يومهم مزدحمة بالكثير من الأنشطة والمهام الواجب القيام بها, لدرجة تعذر التخاطب والتواصل فيما بينهم فحسب, إنما لهذه المشكلة أسبابها وجوانبها الأخرى المتمثلة في أن كل جيل من الأجيال, يستجيب للعالم ويتفاعل معه, على نحو مختلف جداً عن جيل آبائه وأجداده.
وقد أحسست بذلك الاختلاف داخل بيتي مباشرة, لدى وفاة جاك كيبلي مخترع شريحة المايكرو الإلكترونية. ففي عالمنا هذا, هناك قلة من العلماء والمخترعين الأفذاذ الذين أحدثوا تغييرات جذرية في حياة البشرية جمعاء. ويندرج بين هؤلاء هنري فورد, توماس إيديسون, الإخوان رايت, وجاك كيبلي. وإذا ما نظر المرء إلى أي واحد من هؤلاء, وإلى الطريقة والمدى الذين غيرا بهما عالمنا وطرائق حياتنا فيه, فإن عليه ألا ينسى ذلك الدرس المهم الذي لقننا إياه العالم البيولوجي تشارلس داروين: "إن التطور والتكيف البيولوجيين, عادة ما يستغرقا مدة طويلة جداً من الزمن". ومع ذلك فإن البشر عادة ما يتعاملون وكأنهم بلا ذاكرة, ويتوقعون أن يستطيع الأفراد مجاراة السرعة الزمنية الهائلة التي حددتها الآلات والماكينات! ولنا هنا أن نذكر محنة الممثل الكوميدي القدير "شارلي شابلن" وهو يدور ويدور بين فخ الماكينات الذي نصب حوله, دون أن يستطيع منها فكاكاً في فيلمه الكوميدي الساخر "الأزمنة الحديثة". ومن خلال عدد كبير من المرضى الذين أتولى علاجهم, ألحظ أن هناك افتراضاً شائعاً لا أساس له من الواقعية, يزعم في البشر, درجة من المرونة والقدرة على التكيف, مع التقليل من حجم وفداحة الضريبة التي يدفعونها مقابل التكيف مع هذه الأزمنة الحديثة.
فما أن اشتعل أول مصباح كهربائي في عالمنا الحديث هذا, حتى بدأ البشر بالانفصال والاغتراب تدريجياً, عن إيقاع حياتهم الطبيعي. أما المستثمرون عبر القارات, فنراهم يقطعون المناطق الزمنية, ثم يعودون مرة أخرى, حيث انطلقوا في رحلاتهم المكوكية العابرة للقارات تلك. كما نرى الكبار والراشدين يتحايلون على طول يوم عملهم المكون من بضع ساعات, بجلب ما تبقى منه إلى منازلهم, وإكماله في زمن إضافي يقتطعونه ويخصمونه على حساب الكثير من جوانب حياتهم الأخرى. إلى ذلك نرى المراهقين يميلون للاتصال بأصدقائهم وأحبابهم, في أي ساعة أو لحظة من اليوم, حسبما تمليه عليه رغباتهم واستعداد الآخرين للتجاوب معهم. وهكذا يدور الأفراد كما لو كانوا تروساً في الماكينات أو الآلات, حتى ينتهي الحال بأحدهم إلى مستشفى أو عيادة من عيادات الرعاية الصحية, سواء كانت الإعاقة ذهنية أم جسمانية.
تلك هي اللحظة التي يشعر فيها الكثير من المرضى بعقدة الذنب, ويوجه اللوم لنفسه في المقام الأول, ما أن يقع صريع المرض أو الإعاقة. والسبب وراء هذا الشعور بالتقصير والذنب, مرده يقظة الوعي بفداحة الاستهانة والتقليل من حجم شحنة التوتر العالية, التي تتسم بها البيئة المحيطة بنا, وبمدى تأثيرها السلبي على صحتنا النفسية.
واليوم فقد بات من الصعب علينا جداً أن نصدق أن غالبيتنا كانت تلزم السرير ما أن تغرب الشمس, قبل وقت ليس بالبعيد من عمر البشرية. ذلك أن الناس كانوا يولدون ويكبرون ويعملون ويموتون, في مسافة قريبة من مسقط رأسهم ومرتع طفولتهم في الغالب الأعم. وبحكم ضيق نطاق الحياة, فقد كان التواصل كله يحدث بينهم مباشرة ووجهاً لوجه. وفي حالات نادرة جداً كانوا يلجؤون أحياناً إلى التواصل عن بعد, عبر التلغراف والرسائل البريدية العادية. وكان يكثر اجتماعهم ببعضهم البعض, سواء في دور العبادة أم في مؤسسات ومنظمات العمل الاجتماعي المدني, التي من أشهرها وأبرزها الأندية الرياضية والاجتماعية والثقافية. وعلى سبيل المثال, فقد وصفت الكاتبة المؤرخة دوريس كيرنس جودوين, في كتابها "الأوقات غير العادية" الجدول اليومي لحياة الرئيس الأميركي الأسبق فرانكلين دي