ماذا يحدث إذا ذهب الجسد العربي إلى الأطباء وارتمى على طاولتهم وطالبهم بتشخيص أوجاعه, وتحديد أمراضه التي انتشرت في جسده المهترئ من كثرة ما تعرض له من تجارب ومغامرات، بعضها أصابه بالإحباط، بينما أكثرها جلب إليه النكسة والخيبة والعار، سياسياً، واقتصادياً، واجتماعياً، وإعلامياً، وتقنياً، وعسكرياً، ولم تتم معالجته حتى الآن؟. فهل يستطيع الأطباء تشخيص الأمراض وإنقاذ جسده المريض منها وهو على وشك أن يشيع إلى مثواه الأخير غير مأسوف عليه؟
لقد تجمع الأطباء حول سرير المريض المحتضر وكلهم أسى لحاله، وبدأ كبيرهم المتخصص في أمراض السياسة يتحدث برفق، لشعوره بانعدام الأمل في شفائه، فقال للمريض: لقد أتيت متأخراً نحو ألف عام ولم يعد هناك مرض سياسي إلاّ وأصابك من رأسك إلى أخمص قدميك. فأنت مصاب "بشلل في الفكر الاستراتيجي"، و"عقم في كرسي السلطة"، الأمر الذي أدى إلى إعاقتك سياسياً، ودمر قدرتك على الحركة داخلياً وخارجياً. ومن أهم أعراض هذا الشلل هو أبدية السلطة وعدم القناعة بأهمية التغيير، وانتشار النفاق السياسي وتأليه المسؤول، فيتحول الاقتراع الحر إلى "قرع" مسيطر عليه من أصحاب السلطة للحفاظ على صاحب الكرسي، وتستأصل الحريات من جذورها، وتضيع المساواة بين فئات الشعب، ويتحول المسؤولون من ممارسة السلطة إلى التسلط والاعتماد على الاستبداد السياسي في مواجهة المعارضة، وينتهي حكم القانون ويصبح ما يقوله المسؤول هو القانون، ومن ثم تصبح المواطنة استعبادا، والشعوب ضيوفاً على أنظمتها السياسية التي امتلكت كل شيء. ويصيب الوهن السياسة الخارجية، وتضعف إرادة التأثير في مجريات الأحداث ويصبح المريض مفعولاً به وليس فاعلاً، وتحيط به الأزمات من كل حدب وصوب.
نكس المريض رأسه وهو يستمع لما يقوله كبير الأطباء وتجول ببصره لعله يجد بارقة أمل في النجاة، إلاّ أن طبيب الاقتصاد لم يتوان عن تشخيص الحالة، والتي عبر عنها بــ"الجلطة الاقتصادية في شريان الحياة"، وهي تحتاج إلى جراحة عاجلة قبل أن تؤدي إلى الفقر المدقع والجوع.
ومن أهم أعراض هذه الجلطة الخلل الهائل في الميزان التجاري، واعتماد العرب في غذائهم على الاستيراد، وعدم قدرتهم على إنتاج احتياجاتهم، وعدم وجود أي دور لهم في الاقتصاد العالمي، بل إنهم يفتقدون إلى التبادل التجاري فيما بينهم، والتكالب على السلع الاستهلاكية، والترنح بين الخصخصة والقطاع العام، واصفرار لون الاقتصاد الوطني، وضياع معالمه. فلا هو حر ولا هو حكومي، ويصعب أن يوصف بالرأسمالي أو الشيوعي، لأنه لا يمت بصلة لأي منهما، والفساد مستشرٍ على جميع المستويات، وبرامج العلاج كثيرة ولكن أحداً لا يلتزم بها، لأنها تضر بمصلحته لحساب الشعب وهو أمر لا يقبله لايمانه بأن المرض سينتقل إليه. ثم أن الجميع من حكام ومحكومين يصرخ من تدهور الحال الاقتصادي، فتزداد الحالة سوءاً لأن أصحاب الثروة يهربون إلى بيئة صحية اقتصاديا لينقذوا أنفسهم. والمستثمرون يمتنعون عن الاستثمار لتزايد عنصر المخاطرة مع مريض يحتضر ويحتاج إلى عمليات اقتصادية جذرية لعلاجه، فتزداد الأعراض نتيجة عدم توافر فرص عمل للقادرين، مع زيادة سكانية يستحيل السيطرة عليها، فيتدهور الحال.
شرد المريض بعيداً بفكره وهو يتذكر حاله في الماضي البعيد عندما كان إمبراطوراً يحسب له ألف حساب والكل يسترضيه، وأمجاده يتحاكى بها العدو قبل الصديق، ثم تنبه إلى حديث الطبيب الاجتماعي الذي كان يناقش طبيب الاقتصاد في تداعيات الأمراض الاقتصادية على الوضع الاجتماعي للمريض، وأكد أن المريض يعاني "سكتة اجتماعية حادة"، تظهر على شكل إعاقة في التعليم، وانهيار في الصحة العامة، وانتشار في الأوبئة، واكتئاب في المجتمع المدني، إن وجد، وانفصام في الهوية الوطنية، وصداع مزمن في الخدمات والبنية التحتية، وفقر في الخدمات الضرورية، وقلق وذهان من انتشار البيروقراطية الإدارية، وأوجاع في مفاصل حركة المجتمع، ونزيف من هجرة الأدمغة الوطنية، وظهور فيروسات وجراثيم التفرقة العرقية والطائفية، وتلوث الأمن الاجتماعي نتيجة لجوء الشعوب إلى الشعوذة والإيمان بالغيبيات لعلهم يجدون الراحة من مرارة الواقع.
أما أمراض الإعلام فهي كثيرة ومتشابكة ومعقدة ويصعب الفكاك منها إلاّ بقضاء الله. هكذا انفعل طبيب الإعلام وهو يشخص حالة مريضه، الذي أصابته حالة ذهان عقلي وتدهور فكري نتيجة أن الوسائل المرئية تهتم بالتفاهة على أنها ترفيه. وأصبحت المشاجرات وتبادل الاتهامات والتمسك بالشعارات الزائفة بديلاً عن الرأي والحوار المنظم والمقنع. وتحولت وسائل الإعلام من أدوات للتثقيف وصياغة الرأي العام وطرح النقاش الشعبي لمشكلات المجتمع، وإقامة حوار بنّاء بين تركيبات المجتمع من أجل التوصل إلى حلول واقعية لمعاناته, إلى سباق للعري وعرض المفاتن وتنافس في عروض أزياء المذيعات، وجري وراء الفتن، وافتقاد الحس بقضايا المجتمع ومشكلاته، والمساعدة على الفساد بالتستر عليه، وتحميل الآخرين مصائبنا، ففرضت الرقابة على الإبد