منذ بداية عصر الرحلات الفضائية, ظلت الأجيال الأميركية ترى في ارتداء رواد الفضاء لبزاتهم وملابسهم الخاصة بالطيران في الفضاء, مؤشراً على دنوِّ أجل دفع الواحد منهم, للتكلفة البشرية الباهظة, الناجمة عن مشاركته في الرحلات والاكتشافات الفضائية. وفي كل مرة يمر فيها البرنامج الفضائي بأزمة ما ويتجاوزها, تجد الأميركيين منهمكين في طرح الأسئلة الأساسية ذات الصلة بجدوى هذه البرامج, من قبيل: لماذا نفعل هذا ونصر على الاستمرار فيه؟ وما الذي يبرر إنفاق مليارات الدولارات على الرحلات الفضائية, في حين أن هناك العديد من القضايا والمطالب الضاغطة الملحة, التي يتطلب إنجازها أموالاً طائلة, نحن في أمس الحاجة إليها؟ غير أن الإجابة على مثل هذه الأسئلة, قلما حظيت بالاهتمام اللائق بها من قبل الجهات المسؤولة والمعنية.
يوم الأربعاء المقبل, سيشهد العالم بأسره وبقلوب واجفة خائفة, ما سوف يكون عليه مصير أول مكوك فضائي أميركي, ينطلق إلى الفضاء عقب كارثة تحطم مكوك كولومبيا, التي لقي فيها طاقم الفضائيين السبعة حتفهم في وقت مبكر من عام 2003, إثر سقوط المكوك في جنوب غربي الولايات المتحدة الأميركية. وعلى الرغم من التحسينات الأمنية الأكثر سلامة, التي أدخلتها وكالة "ناسا" على تصميم المكوك الفضائي إثر تحطم كولومبيا, فإنه لابد من الإقرار بأن هذه الرحلات البشرية الفضائية, تظل على خطورتها التي لا يمكن التقليل من شأنها, علاوة على كونها مجرد روتين, حان الوقت لإعادة النظر في جدواه وفوائده العلمية. وعلى حد تصريح مايكل جريفين مدير وكالة "ناسا" للأبحاث والرحلات الفضائية, فإن القصد من التجربتين المتوقع إطلاقهما خلال الفترة المقبلة, هو اختبار مدى فاعلية التحسينات والتغييرات التي أدخلتها الوكالة على المكوكات الفضائية وقياس مستوى السلامة فيها. وفي السياق نفسه قال جريفين محذراً الجهات المسؤولة عن تنفيذ القانون, إنه من الضروري فهم أن هاتين التجربتين تحملان عنصر المخاطرة المحيطة بأي رحلات اختبار فضائي بالطبع.
أما الهدف النهائي الذي تسعى "ناسا" إلى تحقيقه من وراء هذه الرحلات الفضائية التجريبية, فهو أن تساعد المكوك, في بناء محطة فضائية دولية. والمتوقع أن تكون هذه المحطة واستخداماتها ومزاياها الفضائية, أقل بكثير من التصور الأصلي لها, كما لا يتوقع لها أن تكون بالكفاءة والإلهام الذي تشعله في عقول البشرية, المجسات والمسبارات التي تقوم حالياً برسم خريطة وتصوير الكواكب البعيدة الخطيرة مثل المريخ. عليه وتعليقاً على إصرار وحرص الرئيس بوش على تطوير الرحلات الفضائية البشرية, وإعادة الرواد الفضائيين مجدداً إلى القمر في وقت لا يتأخر كثيراً عن عام 2020, ثم إرسالهم في نهاية الأمر إلى كوكب المريخ, فإن السؤال الطبيعي الذي لابد من إثارته في وجه هذا الحماس هو: لماذا يتعين على الولايات المتحدة الأميركية أن تصر على المضي في هذا الطريق إلى آخر الشوط, وتنفق عليه من الأموال والدولارات الطائلة, في حين تستطيع الأجهزة والآلات القيام بعملها في مجال الاكتشافات الفضائية, على نحو يتفوق على البشر بكثير, ويجنبهم شر المخاطرة بأرواحهم وحياتهم في الفضاء, إلى جانب تقليل التكلفة المالية إلى حد لا يمكن مقارنته بأي تكلفة ناشئة عن الرحلات الفضائية البشرية؟
من جانبه قال السيد روجر لانيوس -مؤرخ وكالة ناسا لأبحاث الفضاء سابقاً, وأمين متحف سميثونيا الجوي الفضائي بواشنطن حالياً- لقد أصبحنا في مفترق طرق اليوم, ومما لا شك فيه أن القرارات التي ستتخذ خلال السنتين أو الثلاث سنوات القليلة المقبلة, سوف تقرر ما سنكون عليه في هذا المجال, خلال الثلاثين أو الأربعين عاماً المقبلة. ومن هنا فإن من رأي العلماء المختصين بالمجال, أن هناك أهمية كبيرة للدعم الشعبي لمثل هذه البرامج والرحلات على المدى البعيد. ولما كان الأمر كذلك, فإنه لمن الصعوبة البالغة أن تحصل مثل هذه الخطط والبرامج على ما يلزمها من دعم مستمر, دون الإجابة على الأسئلة الرئيسية المحددة لها مثل: لماذا يبقى دائماً من مصلحة الولايات المتحدة الأميركية, أن تواصل التزامها بهذه الرحلات الفضائية البشرية الباهظة التكلفة؟ ذلك هو السؤال الذي أثاره جون لوجسدون, مدير معهد السياسات الفضائية التابع لجامعة جورج واشنطن.
وبعودتها إلى الفضاء مرة أخرى في الأسبوع المقبل, تكون الولايات المتحدة الأميركية قد دشنت تنافساً جيوسياسياً حامياً لم يكن له وجود حتى لحظة تحطم المركبة كولومبيا في مطلع فبراير من عام 2003. فمنذ ذلك التاريخ سعت عدة دول أوروبية وآسيوية لتدشين أولى رحلاتها الفضائية البشرية, فيما يكشف عن تنافس واضح مع الولايات المتحدة في هذا المجال. وفيما يبدو فإن دولاً عديدة تحرص على إرسال مكوكاتها الفضائية نحو الكواكب الأخرى, للأسباب نفسها التي كانت قد دفعت كلاً من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق, إلى خوض تلك المغامرة التنافسية إبان فترة الحرب الباردة. ذلك هو ما أوضحته جوان جونسو