تكمن أهمية الكتاب الذي نعرضه هذا الأسبوع في مسألتين اثنتين. أولا لأن مؤلفيه دومينيك فيدال الصحفي في الجريدة الفرنسية "لوموند ديبلوماتيك" ذائعة الصيت واليهودي الأصل ثم الصحفي العربي الأصل كريم بورطل, يلامسان موضوع التواجد العربي في فرنسا المثخن بالآلام والجراحات. ولطالما حاول المجتمع الفرنسي التعاطي مع هذا الموضوع بعقلية عصر الأنوار التي تتلخص في الحرية والإيخاء والمساواة من دون أن ينجح في تحقيق تلك المبادئ على أرض الواقع بسبب النفاق الذي يسود المجتمع والممارسات العنصرية التي مازالت مستشرية, وذلك بصرف النظر عن مزاعم الخطاب الرسمي التي تدعو إلى اندماج المهاجرين المغاربيين في نسيج المجتمع.
وثانياً لأنه بالرغم من أن هؤلاء الأشخاص يشكلون الجيل الثالث من المهاجرين الذي تركوا أوطانهم في شمال إفريقيا وهم الآن مواطنون فرنسيون، أو على الأقل هذا ما تشهد به أوراقهم الرسمية، إلا أن لعنة أصولهم العربية والإسلامية مازالت تلاحقهم حتى بعد أن فقدوا ارتباطهم بوطنهم الأصلي ولم تعد تربطهم به سوى حكايات الآباء وذكرياتهم القديمة.
يعطي الكتاب الكلمة للمعنيين كي يتكلموا عن أنفسهم ويعربوا عن انشغالاتهم المتعددة داخل فرنسا. لذا يفتح الكتاب صفحاته لتنطبع عليها ارتسامات مجموعة من الأفراد من مختلف الأعمار والأوساط الاجتماعية قاسمهم المشترك أنهم مواطنون فرنسيون ينحدرون من أصول مغاربية. غير أنهم يعانون من الاغتراب وسط مجتمع يفترض أن يكونوا قد اندمجوا في نسيجه بشكل كلي، خصوصاً أنهم ولدوا بين ظهرانيه ودرسوا في مدارسه وجامعاته، ثم إن هناك منهم من يعمل في بعض مؤسساته المختلفة. وينطلق المؤلفان ليطرحا سؤالهما الملح لماذا فشل جزء كبير من أبناء المهاجرين الذين قدموا لفرنسا منذ بداية الستينيات في الاندماج في المجتمع؟ غير أن الكتاب يعكس هذا السؤال الذي يطرحه الخطاب الرسمي في وسائل الإعلام ليصبح لماذا فشل المجتمع الفرنسي في استيعاب شريحة مهمة من مواطنيه؟ إن إعادة صياغة السؤال بهذه الطريقة تحرره من المضامين السلبية التي يحملها الخطاب الرسمي الفرنسي والذي غالباً ما يسعى إلى تحميل مسؤولية العزلة التي تلف تلك الشريحة إلى عوائق ذاتية تمكن في المهاجرين أنفسهم.
ويقوم المؤلفان بتجميع الشهادات المتعددة من خلال اللقاءات التي أجروها مع الفرنسيين من أصول مغاربية والناشطين في منظمات المجتمع المدني المختلفة ثم تحليل مقولاتهم وذلك بهدف التعرف على الأسباب الحقيقية التي تجعلهم يشعرون بعدم الارتياح وبالتباس العلاقة التي تربطهم بفرنسا. وفي هذا الإطار يشير الكتاب إلى أن بلد الأنوار الذي يتشدق بتكافؤ الفرص بين مواطنيه مازالت أحزابه السياسية تعاني من ضعف في تمثيل الأقليات المسلمة، ولا يستثنى من هذا الوضع إلا الحزب الشيوعي الفرنسي حيث يشكل الفرنسيون من أصول مغاربية أو إفريقية 10% من كوادره العليا. ومع ذلك فإن تمثيل الفرنسيين المسلمين في الهيئات والمؤسسات الحكومية وغير الحكومية لا يعبر عن حقيقة الخريطة العرقية والدينية للمجتمع الفرنسي. فبالرغم من أن المسلمين في فرنسا يشكلون 8% من مجموع السكان، إلا أنهم نادراً ما يحظون بتمثيل واضح في المؤسسات الحكومية، حيث مازالت النظرة الرسمية للمسلمين يحكمها المنطق الأمني في ظل تنامي الأصولية الإسلامية بين أوساط الشباب وتوجس الفرنسيين من الخلايا الإرهابية التي تهدد أمنهم القومي.
ويواصل الكتاب إثارة التساؤلات حول الأسباب الرئيسية التي تجعل الجيل الثالث من المهاجرين يشعر وكأنه ترك وطنه الأصلي توا، أو كأنه من نفس الجيل الأول حيث لم تشفع له السنوات التي قضوها في فرنسا. ومازال هذا الجيل يعاني من التمييز في العمل والتعليم والسكن وسط مجتمع ينظر العديد من أفراده بعين الريبة والشك إلى كل ما هو عربي ومسلم. ولاستقصاء تلك الأسباب التي تقصي المهاجرين وتجعلهم مغيبين عن الحياة السياسية والاقتصادية للبلاد يقوم المؤلفان بتوجيه أسئلتهم إلى بعض علماء الاجتماع الذين عزوا أسباب انعزال المهاجرين العرب والمسلمين وعدم اندماجهم في المجتمع الفرنسي إلى عوامل ثقافية وسياسية واقتصادية، لكن العامل الأهم هو ذلك المتعلق بالتاريخ حيث لم ينسَ الفرنسيون أنهم كانوا في يوم من الأيام يحتلون البلاد التي ينحدر منها هؤلاء المهاجرون ومازالت بالتالي النظرة الاستعلائية طاغية في العلاقات الثنائية، كما أن المهاجرين من جانبهم لم يتخلصوا بعد من مشاعر الظلم والحيف التي خلفها المستعمر في نفوسهم وهو ما ينعكس على علاقات الطرفين حتى وهما مواطنان في نفس البلد. إن ما يحاول الكتاب الإشارة إليه هو أن المهاجرين والمجتمع تحكمهما علاقات القوة الضاربة بجذورها في عمق التاريخ. وبالرغم من تضمين القوانين لحقوق وواجبات تنطبق بالتساوي على كافة الفرنسيين بصرف النظر عن أصولهم أو دياناتهم إلا أن الممارسات اليومية تزيد من تعميق الشعور بالاغتراب لدى الفرنسيين من أصول مغاربية.
ويكشف الكتاب كذلك عن تناقضات