يقدم المفكر وعالم المستقبليات المغربي المهدي المنجرة في كتابه "المهانة في عهد الميغاإمبريالية"، وعبر مجموعة من الأفكار والمداخلات والحوارات الصاخبة، توصيفاً لما يمكن تلخيصه حاليا بـ"الذل" الذي هو "شر قديم يعود بقوة ليبسط هيمنته على العالم". والمنجرة صاحب توقعات وتحليلات مستقبلية عميقة أثبتت الأيام صدقها؛ حيث تنبأ بانهيار اتفاق أوسلو، وإخفاق "مشروع الشرق الأوسط الجديد"، وتوقع غزو العراق قبل حدوثه بعشر سنوات... ويحذر الآن من أن الوجود الأميركي في بلاد الرافدين سيعني أيضا الانطلاق نحو إيران وآسيا الوسطى وليبيا وكل البلدان الإسلامية، إنه يتحدث إذن عن "مخطط معقد" غايته "الهيمنة" و"الإهانة" كإرادة واعية في التعدي على كرامة الآخرين. ومن خلال اهتمامه البحثي الطويل وعمله خلال 20 عاماً كمسؤول دولي مكلف بالثقافة عبر العالم، وتجربته الطويلة أيضا كأستاذ في عدد من الجامعات الأميركية والأوروبية، يبلور المنجرة في هذا الكتاب مجموعة من الرؤى حول نظام القوة في العالم، و"الميغاإمبريالية"، والحرب الحضارية، وتبعية العالم العربي، وحرب العراق، ونهاية الإمبراطورية الأميركية..
لقد تحولت الولايات المتحدة خلال السنوات الأخيرة إلى قوة هيمنة عالمية غير مسبوقة في تاريخ العلاقات الدولية ومجرى التطور الإنساني، وآل الأمر إلى ما بعد الاستعمار الجديد أو الميغاإمبرليالية التي تقتضي، حسب مدلولها لدى المنجرة، تفرداً كاملا بالقرار العالمي، ولا تقبل بوجود إمبريالية أخرى منافسة، خلافاً لما كان عليه الحال في السابق، بل تتطلب أسلوباً جديداً ولغة بتركيب جديد أيضا.
وإذا كان النظام الدولي والأمم المتحدة تعرضا لذل وإهانة كبيرين في عهد الميغاإمبريالية، فإن هذه الأخيرة حملت سلسلة لا متناهية من الإهانات ضد شعوب "العالم الثالث" خلال نصف القرن الأخير، وفي إطار "العالم الثالث" قد يكون العالم العربي الإسلامي هو الذي "تعرض لأكبر عدد من المهانات الخارجية والداخلية التي قضت على ما يناهز عشرة ملايين شخص في السنوات العشر الأخيرة من القرن العشرين". ويذكر المنجرة من تلك الإهانات، بصفة خاصة، سلسلة الإجراءات العسكرية والقانونية والسياسية لمحاربة الإرهاب، والتي شملت المعرفة والتراث الثقافي كما حصل في العراق بعد غزوه، بل إن تعاليق وسائل الإعلام العربية حول فلسطين والعراق تمثل إهانة يومية ومذلة أقسى بالنسبة للذين يتعلق بهم الأمر.
وهكذا، كما يقول المنجرة، أصبح العالم العربي يعيش مرحلة "الذلقراطية"؛ في افتقاره إلى المؤسسات الديمقراطية، وحالة الانهيار الشامل لمناذج التنمية، وفي ظل الاستلاب الثقافي الذي يعد "الذل الأكبر على المستوى البعيد لأنه يتعلق بعدوان على أنظمة القيم". بل أكثر من ذلك يعيش العالم العربي "الخوفوقراطية" متمثلة في الخوف من التغيير وحقوق الإنسان وحرية النقابات والأحزاب، إضافة إلى "التفقيروقراطية" التي هي نظام سائد للتدبير وممارسة الحكم أيضا!
ويتطرق المنجرة باستفاضة إلى ما يسميه الحرب الحضارية، وكان قد استخدم ذلك المصطلح في فبراير 1991 خلال حوار مع مجلة "دير شبيغل" الألمانية لتجعل منه عنواناً لملفها حول حرب الخليج المندلعة حينئذ، ثم بعد ذلك تبنى صمويل هينتنغتون مفهوم "صدام الحضارات" في مقالة نشرها مطلع إبريل 1993، واعترف في كتابه "صدام الحضارات"، الصادر فيما بعد، بمرجعية المنجرة في طرح مفهوم "الحرب الحضارية"، لكن الأخير يؤكد على تباين الأطروحتين بشكل كامل؛ ففيما تبدو أطروحة هنتينغتون توجيهية بالأساس، فإن أطروحة المنجرة ذات طابع استشرافي واضح، وهي "تبتغي استباق الأمور لتفادي النزاعات، على عكس هنتينغتون الذي يعتبر أن البذرة الوراثية للعنف توجد في الحضارات"، بل لا وجود، في نظر المنجرة، لثقافة تولد أصلا عدوانية أو لتصارع ثقافة أخرى، أما إذا ما تم احترام القواعد الأساسية للتواصل الثقافي والتنوع، فإن أسباب النزاعات والصراع ستقل إلى أبعد حد.
ويتنبأ المنجرة بنهاية الإمبراطورية الأميركية، قائلا إن "الحرب الحضارية الثانية" في أفغانستان، كانت مدخلا لانهيار الإمبراطورية التي لا تزال لحد الآن تسيطر على العالم. وهو يرى أن كل شيء يدعو إلى الاعتقاد بأن الصينيين آتون ومعهم جنوب آسيا بأكمله، ويستشهد بتصريح للرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون قال فيه: "نحن على علم بأنه ليس من الممكن أن نظل القوة الاقتصادية العالمية الأولى في غضون العشر سنوات المقبلة، فالصين ستحقق تقدماً ساحقاً علينا، وسنتراجع للمرة الثانية"، وفي ذلك إشارة واضحة إلى بداية الانحطاط والانهيار الاقتصادي! وفي سياق التدليل ذاته، يلاحظ المنجرة بداية مرحلة جديدة أعقبت أحداث 11 سبتمبر وحربي أفغانستان والعراق، وقد شهدت المزيد من تخويف الناس وإشاعة الرعب في أذهانهم كي يصبحوا طيعين، ويأتي ذلك بعد حقبة طويلة كانت إنجازاتها الأميركية تستند إلى اعتقاد المواطن الأميركي بأن بلاده هي أعظم أمة في العالم وأنه ليس من قوة يمكن أن ت