مع طوفان الأخبار اليومي، عادة ما ننسى الصورة الكبيرة التي تساعدنا على تبين الأبعاد الحقيقية للأمور. وفي عالمنا العربي على وجه التحديد، لم يسبق لهذه الصورة الكبيرة أن تغيرت بسرعة أكبر، أو بطرق أسرع من السرعة أو الطرق التي تغيرت بها خلال الشهور القليلة الماضية... وما سيأتي سيكون أكبر وأضخم.
وهذا التغيير طال كل شيء في العالم العربي: من وسائل الإعلام العربية، إلى الشوارع, إلى الصناعة النفطية، إلى الاقتصادات العربية المتحولة، إلى الأفكار الإصلاحية الجديدة، والانتفاضات الضخمة في كافة أوجه العلاقات الدولية. بمعنى آخر إن كل شيء كان يشكل ما يعرف بـ"الأمر الواقع" قد تغير و لم يعد كذلك.
إن العرب وعالمهم يتحركون الآن. إننا نجتاز في الوقت الراهن منعطفا تاريخيا سوف ينظر إليه الكثيرون منا ذات يوم ويقولون: لقد كنا هناك عندما حدث ذلك.
وفي مصر، الدولة العربية الأكبر من حيث عدد السكان، هناك الآن عاصفة كاسحة من الأفكار والتمرد، والاستجوابات، والاحتجاجات، بدأت في هز الحكومة التي رفضت إجراء أي تغييرات منذ 1952. فمنذ عدة أيام تمت الإطاحة بجميع رؤساء تحرير الصحف القومية المصرية من مناصبهم، وذلك بعد أن ظلوا فيها لمدة ربع قرن تقريبا. والحكومة المصرية لم تقم بذلك طوعا، أو من تلقاء نفسها، ولكنها قامت بما قامت به، لأن العاصفة السياسية التي أثارتها حركة "كفاية"، التي تكتسح الشوارع العربية منذ عدة شهور جعلت وقوف الحكومة دون حركة أمرا "مستحيلا"، وفرضت عليها أن تقوم بعمل بشيء ما.
بمجرد أن يبدأ التغيير لا يمكن إيقافه. إن المحصلة الوحيدة للتغيير في قيادات الصحف، والتغيير الدستوري الذي سمح لأكثر من شخص بالترشح لمنصب رئيس الجمهورية، هي أن الزخم الذي كان قد تولد قبل ذلك قد تمت تغذيته الآن برياح أخرى تدفع شراع السفينة وتساعدها على الإبحار. هناك شعار جديد يرتفع الآن، يقول إن كل ما حدث حتى الآن "ليس كافيا" وإن هناك حاجة للمزيد. وكان من الطبيعي والحال كذلك أن يبدأ هؤلاء الذين كانوا واثقين من قوتهم في إعادة حساباتهم من جديد.
فعلى سبيل المثال، نجد أن حركة الإخوان المسلمين، التي كان يعتقد على مدى الأربعين عاما الماضية أنها تمثل أقوى حركة معارضة سياسية في مصر، تشعر الآن بأنها قد أصبحت واقعة تحت ضغوط شديدة. فقادتها يتعرضون لضغط من المثقفين والعلمانيين، والكتاب، والشارع المصري كي يشرحوا برنامجهم السياسي، وسياستهم نحو المرأة، ووجهة نظرهم الاقتصادية. إن الشارع المصري القوي أصبح يقول لهم إن مقولة "الإسلام هو الحل" لم تعد كافية بعد الآن، وإن هناك جيلا كاملا من المصريين الذين يريدون الوظائف، والأمل، والإجابات الحقيقية وليس الشعارات.
لذلك نجد أن شخصيات الإخوان المسلمين المعروفة ليس فقط في مصر، وإنما في تونس والمغرب والأردن وسوريا وكل مكان آخر، مشغولة الآن بإجراء مقابلات مع وسائل الإعلام يقولون فيها إنهم سيقدمون برنامجا اقتصاديا شاملا، قادرا على استيعاب الآخرين بما فيهم العلمانيون والعرب المسيحيون أيضا، والتعامل معهم على قدم المساواة، وإنهم سيسمحون بحرية التعبير... حسناً نحن جميعا في الانتظار.
أما في منطقة الخليج العربي فهم لا ينتظرون. فهناك قيادات جديدة وشابة وديناميكية في دولة الإمارات العربية المتحدة وقطر والبحرين، تقوم بالابتكار والإبداع كل يوم في هذه البلدان التي تمر الآن بالجيل الثالث من الثروة والتعليم، وتحفل بالأنشطة الاقتصادية. إن قيادات دول الخليج الشابة تتطلع لكل ما هو جديد، لأن شعوبها، واقتصادها، ومستقبل رجالها، ونسائها بحاجة إلى التغيير اليوم قبل الغد، وقبل بعد الغد.
وحتى في مصر، نجد أن حركة "كفاية" قد تجاوزت بالفعل أحزاب المعارضة القائمة والبالغ عددها 19 حزباً، وساعدت على ظهور 14 حركة وجناحاً جديداً, منها حركة يرأسها رئيس الوزراء الأسبق الدكتور عزيز صدقي، الذي تحدث بشجاعة غير مسبوقة ضد الحكومة على شاشة قناة "الجزيرة" الأسبوع الماضي ولمدة ساعة كاملة. إن كل ما كان يشكل ساحة معركة سياسية تتقاسمها الحكومة مع أحزاب المعارضة المقبولة فقط، قد تم ملؤه فجأة من قبل الكثيرين من الليبراليين والراديكاليين والاشتراكيين وغيرهم من المنتمين إلى الأطياف السياسية الأخرى، الداعية إلى كل شيء يمكن وضعه تحت راية الحرية.
وحتى العراق - ومع كل الدماء التي تسيل في الشوارع- قد تغير بالفعل. فصدام حسين ونوعيته من الحكام قد ولوا إلى الأبد. لن يكون هناك بعد الآن ذلك النوع من البربرية البعثية، التي اخترعها نظام صدام حسين وغيره من الأنظمة البعثية في المنطقة. إن الأمر قد يستغرق من العراق سنوات، حتى يمكن له أن يعود إلى حالته الطبيعية, ولكن المهم أن ذلك الماضي قد ولى إلى الأبد، بل ويمكن القول إنه قد مات، حتى لو ظل صدام حسين حياً في زنزانته لمدة عشرين عاماً أخرى.
هناك بعد ذلك لبنان: إن ما حدث في لبنان عقب اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري في شهر فبراير الماضي هو شيء يش