هي حلقة مفرغة بالغة الخطورة، تحمل في طيّاتها مخاطر سياسية وثقافية للحياة العربية, تبدأ بالبيت وتمرُّ بالمدرسة وتنتهي بالإعلام. أما حلقة البيت فإنها تتركز في بيوت المسؤولين والقادة في الحياة السياسية والميسورين الكبار في الحياة الاقتصادية. تكون البداية في هذه البيوت بتربية الأطفال من قبل مربيات أجنبيات لا يتكلمن اللغة العربية، وبإهمال مفجع من قبل أمهات منغمسات في عالم الأسواق والزيارات والشّلل وكثرة الأسفـار، وبرغبة خفيَّة عند الآباء في إعلاء شأن اللغة الأجنبية بسبب هيمنتها على عالم يحتقر الجميع فيه كل ما هو وطني وقومي بسبب الانتكاسات والهزائم العربية المتلاحقة, فإذا أضيف إلى ذلك غياب كتب قصص الأطفال الصالحة لعقليات وأذواق أطفال هذا العصر، وعدم وجود البرامج التلفزيونية الملائمة لأطفال العرب, اكتملت كل العوامل المؤدية إلى نمو طفل لا يتكلم اللغة العربية بطلاقة ولا يستعملها في نموه الثقافي ولا يرتبط ذهنياً وعاطفياً بثقافة أمته. وبالطبع فإن هذا الفراغ اللغوي والثقافي لا يمكن إلا أن تملأه لغة وثقافة أجنبية.
ولا يمكن لذاك الضياع في البيت إلا أن يؤدّي إلى ضياع مدرسي. إذ من الطبيعي أن تقرّر العائلة إرسال مثل هؤلاء الأبناء إلى مدارس خاصة تهيمن فيها اللغة الأجنبية على اللغة القومية وتدرَّس فيها أغلب المواد باللغة الأجنبية ويدرس فيها طلاب يتحدثون في الغالب باللغة الأجنبية. وكجزء من تلبية هذه المطالب المتزايدة من قبل مثل هؤلاء الأهالي شاهدنا في السنوات الأخيرة ذاك الانتعاش المذهل للمدرسة الخاصة الأجنبية وللمدرسة الخاصة العربية- الأجنبية.
في الحالتين يتخرج الطالب وهو لا يعرف تاريخ أمته ولا ثوابتها الفكرية والعقيدية ولا قضاياها الكبرى ولا أحلامها المستقبلية. وفي أغلب الأحوال يذهب خريجو هذه المدارس إلى جامعات أجنبية تضيف إلى ضياعهم السابق نقاط ضعف ثقافية أخرى تهيِّئهم للحلقة الثالثة، حلقة الضّياع الإعلامي. فبسبب الضعف في اللغة العربية وبسبب الثقافة المشوّهة التي اكتسبت في المدرسة والجامعة والبيت تصبح المصادر الإعلامية لمثل هؤلاء مصادر أجنبية في مجملها. فالجرائد والمجلات التي يقرؤونها هي التي تصدر في العواصم الأجنبية الكبرى والمصادر التلفزيونية تصبح القنوات الفضائية الأجنبية المشهورة. وعند ذاك فإن وجهة نظر هؤلاء تغلب عليها وجهة النظر الأجنبية وخصوصاً بالنسبة لقضايا الأمة السياسية الكبرى من مثل القضية الفلسطينية أو احتلال العراق أو رجوع الاستعمار إلى أرض العرب. وكذلك بالنسبة للقضايا الاقتصادية التي تهيمن عليها إيديولوجية العولمة والازدراء التام للاستقلال الاقتصادي للأمة والاستخفاف بأهداف من مثل الوحدة الاقتصادية العربية.
وشيئاً فشيئاً يجد هؤلاء أنفسهم, من حيث يشعرون أو لا يشعرون، في الخنادق المواجهة لآمال وأحلام أمتهم. ولما كان هؤلاء أبناء علية القوم وأصحاب النفوذ، وبالتالي أقرب إلى احتلال مناصب القيادة في مجتمعاتهم التي تفتقر إلى النظام الديمقراطي، تنقلب الحلقات الثلاث إلى سلسلة واحدة كارثية تؤدي بالأقطار العربية إلى أن تقاد نحو الاستسلام والهزيمة والتهميش والغربة الثقافية.
من هنا فان الإنسان لا يستغرب أن يكون رأس حربة التغييرات الخاطئة في حقل التربية العربية هم هؤلاء, لا استجابة للضغوط الأميركية- الصهيونية فقط ولكن أيضاً كاتجاه منطقي لهكذا تنشئة. وإلاّ فما الذي يفسّر توجه البعض إلى أن يكون التعليم في جامعاتهم الحكومية باللغات الأجنبية حتى في كليات العلوم الاجتماعية والإنسانية، وأن يُصارَ إلى استبدال الأساتذة العرب بأساتذة أجانب وعلى الأخص من الأميركيين. وهكذا فبدلاً من التوسع في تعريب التعليم العام والجامعي تزداد حركة التغريب. تغريب التعليم سيؤدي إلى تغريب الثقافة التي ستقود إلى عصر الجليد السياسي الذي ينتظر العرب.
لمنع تلك الكوارث لابد من كسر تلك الحلقات الجهنمية، والبداية هي في رجوع الوعي والكرامة إلى بيوت من فقدوا كرامتهم.