كثيرة هي الاجتهادات في تفسير نتائج الانتخابات الرئاسية الإيرانية. وهي، على كثرتها، يكمل بعضها بعضاً أكثر مما يلغي بعضها البعض الآخر. ولذلك لم أفهم لماذا ضاق صدر بعض المجتهدين في تفسير ما حدث في إيران باجتهادات تبدو مخالفة لما ذهبوا إليه. فالوضع الراهن في إيران شديد التعقيد على نحو تتعدد فيه الجوانب وتتنوع. وفي مثل هذا الوضع يصعب تفسير بعض أحداثه الكبرى بمؤثر وحيد أو معطى واحد.
لقد اقترع ما يقرب من ثلثي الناخبين الذين أدلوا بأصواتهم للمرشح الذي اشتهر بأنه الأكثر تشدداً تجاه القضايا الخارجية. ولكن هذا ليس إلا جانباً واحداً في صورة متعددة الجوانب والأبعاد. ورغم أن البرنامج الاقتصادي - الاجتماعي لهذا المرشح أحمدي نجاد، الذي صار رئيساً، أقل شهرة لدينا في العالم العربي مقارنة بموقفه العام المتشدد الذي ركز عليه الإعلام، فقد كان لهذا البرنامج أثره الكبير في اقتراع قطاع مهم من الناخبين لمصلحته. فقد اقترع هؤلاء من أجل وضع حد للبطالة التي تفاقمت في عهد الرئيس السابق محمد خاتمي وبلغت نحو ثلاثين في المئة من القوى العاملة. وهم، باختيارهم هذا، أرادوا إعطاء أولوية لمعلاجة الأزمة الاقتصادية المتزايدة. وربما كان قسم من هؤلاء اقترعوا لمصلحة خاتمي في الانتخابات الماضية والسابقة عليها. وهذا تحول مفهوم في معظم حالاته. فالذين أحبطهم إخفاق الانفتاح السياسي، الذي اقترعوا من أجله في العامين 2001 و1997، يمكن أن يفضلوا التركيز هذه المرة على إصلاح اقتصادي يرونه ممكناً بدلاً من استمرار الرهان على ما لا يبدو متاحاً في المدى المنظور.
وهؤلاء، أو على الأقل قسم كبير بينهم، يفصلون بين برنامج نجاد الإصلاحي الداخلي على المستوى الاقتصادي - الاجتماعي واتجاهه الذي ينزع إلى التشدد في السياسة الخارجية. ويجوز القول إن اقتراعهم لمصلحة نجاد لا يعني رغبتهم في تحدي الولايات المتحدة أو غيرها. غاية ما في الأمر أنهم اقتنعوا بخطابه الذي خاطب مصالحهم المباشرة ومس وتراً حساساً في حياتهم عندما وعد بإعادة النظر في توزيع الثروة الوطنية. وربما تعاطف بعض هؤلاء مع مرشح صعد من صفوف الفقراء إلى موقع عمدة طهران عام 2003 حيث أبدى انحيازاً إلى عامة الناس وعانق أحلام الفقراء.
لقد بدا نجاد سياسياً نظيفاً بعيداً عن دوائر الفساد التي توسعت في غياب القانون الذي يسهل تعطيله أو التلاعب به في نظم الحكم التي لا مكان فيها لرقابة ولا محاسبة ومساءلة. وقد يكون في النظام الايراني بعض مظاهر الديمقراطية المحكومة من أعلى بسلطة الولي الفقيه المطلقة. ولكن هذه المظاهر ليس من بينها محاسبة كبار رجال هذا النظام ممن يضعون أنفسهم فوق القانون. كما أن القانون نفسه يقصر عن محاسبتهم.
غير أن الوزن الكبير للعوامل الداخلية في هذه الانتخابات لم يقلل حجم الصدمة التي أحدثتها نتائجها في الخارج، بسبب الصورة المرسومة للرئيس الفائز، وهي صورة متشدد يتحدث بالأيديولوجيا الجامدة ويرفض الانفتاح، وهنا قد يجد نجاد نفسه في موقف حرج إذا تصاعد رد الفعل السلبي الذي صدر عن واشنطن واتسع نطاقه. وعندئذ قد يخذل الفقراء الذين رفعوه إلى الرئاسة إذا اضطر إلى الانصراف عن الاصلاح الاقتصادي الذي وعدهم بإعطائه أولوية تحت الضغط الخارجي.
وقد رأينا كيف بدأت ارهاصات هذا الضغط حتى قبل أن يشرع في ممارسة مهمات منصبه الجديد. استقبلته واشنطن باعادة فتح ملف احتجاز رهائن أميركيين في سفارة بلادهم في طهران، إذ اتهمه بعضهم بأنه كان أحد أبرز المشرفين على عملية احتجازهم التي استمرت 444 يوماً بين العامين 1979 و1981. كما اتهمه معارضون أكراد بأنه كان وراء الأسلحة التي استخدمت في اغتيال ثلاثة من زعمائهم في فيينا عام 1989.
وهكذا يمكن أن تكون رئاسة أحمدي نجاد فاتحة لمواجهة تضع إيران تحت تهديد خارجي ينذر بخطر يتجاوز ما كان محتملاً قبل الانتخابات الأخيرة. وهذا سيناريو واقعي تماماً بالرغم من أن الرئيس الجديد لا يريده ولم يسعَ إليه. فقضيته الأولى هي معالجة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والتخطيط لانطلاقة تضع إيران على أعتاب النهضة، وليست المواجهة ضد الولايات المتحدة. غير أن خطر هذه المواجهة أصبح يحوم حول إيران بفعل فوز أحمدي وما ارتبط به من تداعيات، فضلاً عن الشكل العام للنظام الإيراني الذي بات التنافس في التشدد أحد مظاهره.
ولذلك قد يكون نجاد في حاجة إلى منهج جديد يعينه على المأزق الذي سيجد نفسه فيه بأسرع مما تصور أحد. ويقوم هذا المنهج على الجمع بين طرح أفكار ورؤى جديدة والسعي إلى تدعيم العلاقات مع العالم العربي عبر حل المشكلات القائمة لكسب أوراق إقليمية باتت ضرورية لتقوية مركز إيران دولياً. ومنهج هذا طابعه يقتضي اتخاذ خطوات لا غنى عنها من نوع:
1- إعطاء أولوية لتطوير العلاقات مع أوروبا في أسرع وقت ممكن، وإنشاء شبكة علاقات اقتصادية مميزة معها ضمن الخطة التي يتبناها لإصلاح الاقتصاد الإيراني.
2- توجيه رسالة واضحة مفادها أن حكومته تحرص على الاستقرار في من