إشكالية الانتقال من الثورة المسلحة إلى السلطة الدستورية المقننة، ومن حياة النضال في الغابات والأحراش والجبال إلى حياة العاصمة والمدن العشوائية، لن تكون الحركة الشعبية لتحرير السودان وزعيمها الدكتور جون قرنق أول ولا آخر من يواجهها من الحركات الثورية المسلحة. والتاريخ - خاصة التاريخ الأفريقي المعاصر- حافل بأمثلة عديدة لمثل هذه الإشكالية المعقدة التي قلَّ أن أفلتت من حبائلها أجيال من زعماء وقادة الحركات الثورية في أفريقيا المعاصرة.
واعتباراً من يوم السبت المقبل التاسع من يوليو ستتركز أضواء كاشفة كثيرة وتتجه نحو "سراي الحاكم العام" في الخرطوم وستكون نقطة التركيز الرئيسية حول هؤلاء "الثوار" القادمين من الغابة تحيط بهم هالة أسطورية صنعها أصدقاؤهم وخصومهم على مدى سنوات الصراع المسلح وتوجتها شخصية زعيمهم الكارزمية الآسرة. وستكون هنالك أعين كثيرة حادة البصر، وآذان كثيرة مرهفة السمع، وأقلام كثيرة مسنونة وألسن كثيرة بليغة ومدربة، تنظر وتراقب وتستمع لكل سكنة وحركة يقوم بها هؤلاء الثوار في دهاليز ودروب السلطة والحكم كشركاء في الحكومة الانتقالية. ولا تخفى على أحد في السودان مكانة وقيمة "شراكتهم" في هذه المرحلة التاريخية الدقيقة في حاضر ومستقبل السودان. سيراقب الخصوم والأصدقاء سلوك الحركة "الشعبية الحاكمة" وقائدها بدقة واهتمام بأكثر مما راقبوا من قبل سلوك "الحركة الشعبية المقاتلة", وسوف يتطلعون - كل من موقعه- وبأيديهم كتاب الحركة بما احتواه من آمال وأحلام ومطامح مشروعة لخصته الحركة في شعار (السودان الجديد) ليروا كيف سيكون طريق الحركة العملي - السياسي- لبناء هذا السودان الجديد الذي بشرت به وقاتلت تحت راياته، وبدا في أوقات كثيرة أنها قد أفلحت في إقناع معظم القوى السياسية الفاعلة بجدواه وبأنه الطريق الوحيد لاستعادة الوحدة الوطنية الطوعية.
كثيرون سينظرون وينتظرون بإشفاق وأمل وآخرون بنية مسبقة في "الشماتة"، نتيجة الامتحان, وقد وصلت الحركة الشعبية إلى مقاعد السلطة والمسؤولية الوطنية. هل ستجرفها مغريات السلطة وبهرجها؟ وهل ستحرفها عن الطريق المستقيم وتنسيها "قضايا المهمشين" في كل السودان الذين ظلت الحركة تفتخر بأنها تتحدث باسمهم وتدافع عن حقوقهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في "سودان جديد" زعمت أنه سيكون قطيعة نهائية مع السودان القديم؟ هل ستفلح السلطة ومغرياتها - كما أفلحت مع غيرهم- في تحويلهم من ثوار ينشدون العدل والمساواة والكرامة الإنسانية إلى "سياسيين أذكياء" غاية منتهاهم الاستحواذ على السلطة واقتسام غنائمها كما يفعل الآخرون؟ هل سيكون وصول الحركة الشعبية إلى الخرطوم ومشاركتها الكبيرة في الحياة السياسية الوطنية والسلطة الحكومية بداية لمرحلة جديدة في العمل السياسي والانتقال به من النمط القديم إلى نمط وطريق جديد تتوافق مع دعوتها التبشيرية بالسودان الجديد؟
وسيقول قائل إن الحركة الشعبية الحاكمة ستكون محكومة بالظروف والشروط والواقع الذي أوصلها إلى الشراكة في السلطة الحالية, وذلك قول في بعض جوانبه صحيح. لكن أصح منه القول إن الحركات الثورية التي تملك إرادة الالتزام بمبادئها وأهدافها التي قاتلت من أجلها بقوة السلاح، تستطيع - عندما تملك الإرادة- أن تشق طريقها لتحقيق تلك المبادئ والأهداف بقوة العمل السياسي الملتزم الأمانة والصدق مع النفس ومع الشعب.
إن الامتحان الذي ستخوض غماره الحركة الشعبية وهي في سرايا الحكم، أشد ضراوة من المعارك التي خاضتها في ساحات القتال... والمتفائلون - أمثالنا - يأملون أن تجتاز الحركة وزعيمها الامتحان بنجاح.