أثار مقالي الأخير حول ضرورة التمييز بين الديمقراطية والليبرالية ردوداً كثيرة من قبل ناشطين سياسيين وأصحاب رأي ربما كان أكثرها إثارة الانتقادات التي نشرها الزميل كمال اللبواني صاحب المبادرة الراهنة إلى تكوين حزب ليبرالي في سوريا. وأقول بداية إننا نحن الديمقراطيين والليبراليين ننتمي إلى معسكر واحد هو معسكر الحرية لكننا نختلف أولا على تقدير شرعية المطابقة النظرية بين الديمقراطية والليبرالية من جهة، وثانياً حول نجاعة مثل هذه المطابقة من الناحية العملية أو الاستراتيجية. وسأحصر حديثي هنا في إثارة المسائل النظرية على أن أكمل مجادلتي في مقال مقبل.
ليست مفاهيم الليبرالية والديمقراطية مثلها مثل جميع المفاهيم النظرية ثابتة وجامدة وإنما تولد ثم تغتني بالمعاني مع الزمن ومن خلال الخبرة العملية التاريخية. فالليبرالية كانت تشير بداية إلى فلسفة جديدة ارتبطت منذ البداية بالنزعة الإنسانية والرفض المطلق لكل أشكال التقييد من حرية الفرد وحقوقه، أي لكل أشكال الاضطهاد السياسي سواء أجاء من طرف السلطة أم من طرف الهيئات الاجتماعية. وفي هذا المستوى تشير الليبرالية إلى فكرة وفلسفة إيجابية في الاستخدام اليومي مقابل نزوع النظم الدينية أو القومية التي تنكر الفردية الحرة وتركز على الحقوق الجماعية إلى ممارسة الضغوط على الأفراد والحد من حرياتهم الشخصية.
بيد أن معنى الليبرالية لم يجمد على هذا المستوى خلال التاريخ الماضي بأكمله. فقد قادت النظم الليبرالية الكلاسيكية التي عرفتها البلدان الصناعية في القرن التاسع عشر إلى أزمات اجتماعية كبرى بسبب تجاهلها العوامل الاقتصادية والاجتماعية في ممارسة الحرية. وكان التعبير الأعمق في نظري عن هذه الأزمات، نشوء الشيوعية نفسها بوصفها فلسفة النقد الجذري والشامل للمسلمات الرئيسية لليبرالية وكنقض منهجي وعملي لها. لكن في إطار الرد على الشيوعية ومواجهة الثورة الاجتماعية التي فجرتها في الدول الصناعية حصلت أول طفرة داخل الفكر الليبرالي نفسه في اتجاه الاعتراف بخطأ الاعتقاد بالتطابق التلقائي والانسجام الطبيعي بين الحرية الاقتصادية والحرية السياسية وبين المصالح الفردية والمصالح الجمعية. وقام الاقتصاديون وعلى رأسهم كينز بتطوير نظرية تدخل الدولة في الاقتصاد عن طريق التوجيه والإنفاق وسياسات الأجور فكسروا لأول مرة "تابو" أو محرم تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية. وفي موازاة ذلك حصل تحت تأثير الكفاح اليومي للمنتجين والطبقات العاملة تطور مماثل في الفكر السياسي الليبرالي في اتجاه القبول بتطوير نظام من الحقوق والضمانات الاجتماعية التي أصبحت شرطاً من شروط المشاركة في الحياة الوطنية والاندراج فيها. ومنذ ذلك الوقت تطور المصطلح السياسي في الدول الصناعية حتى لم يعد هناك تشكيلات سياسية كثيرة تربط اسمها بالليبرالية بينما سمت الأحزاب التي قادت أوروبا للخروج من أزمة الثلاثينيات الطاحنة نفسها بأسماء الديمقراطية، سواء أكانت ديمقراطية اشتراكية أم ديمقراطية مسيحية. والهدف من ذلك أن تشير إلى أن هذه التجارب السياسية الكبرى تجاوزت الليبرالية الكلاسيكية التي تجرم وتحرم تدخل الدولة في عملية التنظيم الاقتصادي والاجتماعي لصالح مفهوم الحرية الفردية الذي يترجم مع غياب شروط المنافسة المتكافئة بين الأفراد إلى حرية الأقوى. وقد تجاوزتها باسم الديمقراطية، أي باسم تعميم قيمة الحرية نفسها وترسيخها وليس باسم إلغائها أو استبدالها بالشيوعية أو الاشتراكية. لم تخطئ الماركسية في تشخيص نقاط التناقض في الفكرة الليبرالية ولكنها أخطأت في تحديد الدواء لها. فإذا كانت الحرية المجردة المنظور إليها خارج شروط الحياة الاقتصادية والاجتماعية للفرد لا تقيم ديمقراطية فعلية، فلا يمكن أيضاً إقامة هذه الديمقراطية بنفي الحرية الفردية.
لكن هناك لحظة ثالثة لا يمكن تجاهلها عندما نتحدث عن معنى الليبرالية والديمقراطية ومفهومهما اليوم وأعني لحظة الردة على الاشتراكية الديمقراطية الأوروبية. فمما لا شك فيه أن الركود الاقتصادي وتراجع معدلات النمو وانتشار البطالة والأزمة المالية والتضخم قد حضر ذلك كله لانقلاب فكري جديد ضد الديمقراطية الاشتراكية أو الاجتماعية وفي سبيل العودة إلى مبادئ الليبرالية الأولى. وكان على رأس هذا الانقلاب مارغريت تاتشر ثم دونالد ريغان ثم انتشرت الفكرة في ما بعد في العالم أجمع الذي يعيش اليوم عودة الليبرالية وانتصارها كما قال فوكوياما على كل ما عداها من عقائد اجتماعية باستثناء الإسلام الذي لا يزال يقاوم الحداثة وأصولها. ما هي أطروحات النيوليبرالية أو الموجة الليبرالية الجديدة؟ ثلاث رئيسية. لقد اعتبر النيوليبراليون أولا أن سبب الأزمة الاقتصادية الرئيسي هو تدخل الدولة الكبير في تنظيم الحياة الاقتصادية خاصة عن طريق المشاركة بقطاع عام واسع وزيادة الإنفاق العام وتمويل مشاريع الضمانات الصحية والاجتماعية. أما الأطروحة الثانية فهي العمل على توسيع دائرة التبادل التجاري وخلق سوق اقتصاد