لماذا فشلت الليبرالية في أن يكون لها قبول واسع في المجتمعات العربية؟ لماذا تجد الليبرالية نفسها دائماً عرضة للهجوم والاتهام؟ ولماذا يجد "الليبراليون" أنفسهم محل شك وريبة، ويبدو وكأنهم لا يملكون القدرة على المواجهة؟ بل إن الكثيرين من المقتنعين بالليبرالية تخونهم الجرأة في الإعلان عن أنفسهم، وعن قناعاتهم الليبرالية. لا يكفي القول إن الليبرالية بضاعة مستوردة، وإنها لذلك لا تستطيع مواجهة بنية فكرية أصيلة تعبر عن تاريخ الأمة، وعن هويتها وأصالتها، وأقصد بذلك البنية الفكرية الإسلامية. مثل هذا المبرر من النوع البسيط الذي يقول كل شيء، ولا يقول شيئاً في الوقت نفسه.
ما هو المستورد تحديداً في هذه الحالة؟ لماذا قبلنا أشياء كثيرة من الغرب ولم يشكل كونها مستوردة عقبة أمام قبولها وشعبيتها في يوم ما؟ استوردنا من الغرب التكنولوجيا، وفكرة "القومية" و"الاشتراكية" و"فكرة الدولة العسكرية"، والدولة "الشمولية". واستوردنا فكرة التمتع بمنتجات الغرب العلمية والتكنولوجية. أخذنا عن الغرب منهج العلم الحديث، وهو مقبول لدينا وندرسه، أو على الأقل نحاول أن ندرسه لأولادنا وبناتنا في المدارس والجامعات.
الأرجح أن تعثر الليبرالية في الثقافة العربية تعبير عن فشلها في أن تتحول إلى أيديولوجيا لها فعاليتها داخل هذه الثقافة. نتذكر أن الليبرالية هي مذهب فكري وسياسي يستند إلى مفاهيم ثلاثة: الفردية، والتعددية، والحرية. المفهوم المركزي هنا هو الفردية في مقابل الجماعية. الفرد له وجود حقيقي وملموس في مقابل المجتمع الذي لا يتجاوز وجوده حدود الذهن، والعلاقات الاجتماعية، والتي بطبيعتها ليست مادية. أيضاً يتميز الفرد بفرادة واضحة تضعه في مقابل فكرة الجماعية التي تهدف إلى صهر الأفراد في بوتقة واحدة حتى يكونوا متشابهين، بل ومتماثلين إذا أمكن. الافتراض أن الفرد لا يملك حرية الاختيار أو حرية التفكير. هناك مؤسسة، غالباً سياسية/ دينية، تحدد خيارات المجتمع وتعمل على تنشئة الأفراد على تبني واستدخال هذه الخيارات.
الفرد الصالح هو الأكثر قابلية على التماهي مع خيارات المؤسسة. "إن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار". المعيار هنا هو التماهي والاستعادة، وليس الاختيار والإضافة. ولذا كثيرا ما أفضت الجماعية ومحاولات الصهر المتواصلة إلى الشمولية والاستبداد. في المقابل، تفترض الفردية بالضرورة مبدأ التعددية، انطلاقاً من اختلاف الأفراد والفرادة التي يتوفر عليها كل فرد. في السياق نفسه لا يمكن أن تكون هناك تعددية من دون قبول بالفرد وفرادته، أو بالاختلاف كحالة طبيعية. بعبارة أخرى لا يمكن أن تكون هناك تعددية من دون تسامح مع الرأي المختلف، وقبول الاختلاف. وكل ذلك يشترط حق الحرية، حرية الرأي، وحرية التعبير، وحرية الاختلاف. إذن الليبرالية كفكر وأيديولوجيا تقوم أساساً على الفردية، ومن أهم قيمها التعددية والاختلاف والحرية، والتسامح.
نجحت الليبرالية في أوروبا في التحول إلى نظام فكري وسياسي مهيمن منذ عصر التنوير في القرن الثامن عشر، وأصبحت هي الإيديولوجيا المهيمنة داخل المجتمعات الأوروبية الرأسمالية. بل وصل حد هيمنتها أن شكلت الأساس الأيديولوجي الذي قامت عليه منذ البداية الدولة في أميركا الشمالية، أو الولايات المتحدة. بل إنها الأيديولوجيا التي تحت ظلالها كانت حرب الاستقلال الأميركية في القرن الثامن عشر.
ما هو نصيب الفردية في المجتمعات أو الثقافة العربية؟ ضعيف جدا. والسبب أن الأساس الاجتماعي، العشائري والطائفي، لا يتسع كثيراً للفردية. الفردية هي من نصيب السياسي صاحب السلطة. هو وحده الذي يملك حق الفردية والتفرد، وله حق الحرية غير المحدودة، إلى درجة أن من حقه إعادة صياغة المجتمع على الهيئة التي يراها. هنا مفارقة صارخة: غياب الفردية من ناحية، وهيمنة الفرد البطل على تاريخ الثقافة العربية، من ناحية أخرى. والنموذج المعاصر للفرد في الثقافة السياسية العربية هو الديكتاتور الذي يملك لوحده حق الحكم والتسلط مدى الحياة، وحق توريث الحكم. لم يأتِ صدام حسين مثلا من فراغ، ولم يهبط من السماء. بل نبع من داخل الثقافة العربية وبنيتها الاجتماعية.
الرئيس الليبي، معمر القذافي، هو مثال آخر للديكتاتور الذي يتفرد بالحكم والسلطة، ويوزع منها ما يشاء على أبنائه وأتباعه، وفي الوقت نفسه يقول للعالم بأن الشعب الليبي هو الذي يحكم ليبيا، وليس هو. القذافي "مفكر" قاد "الثورة" قبل أكثر من خمس وثلاثين سنة. لاحظ هنا الحد اللانهائي من الحرية التي يمنحها القذافي لنفسه ويحرمها على شعبه. يحكم ليبيا بقبضة حديدية، ثم يدعي أنه لا يملك من أمر الحكم شيئاً. وفي الوقت نفسه لا يملك هذا الشعب حتى الحق في التساؤل إن كان العقيد بالفعل هو الذي يحكم ليبيا. ولأنه المفكر الليبي الوحيد (مساحة أخرى للحرية يمنحها العقيد لنفسه)، والذي قاد الثورة، فإن كتابه الأخضر هو المصدر الأول والوحيد للفكر والحكمة في ليبيا. لا يجوز لأي ليبي أن يعتقد بعكس ذلك، ل