لا أحد يستطيع أن ينكر الحراك الجاري حالياً في العالم، حيث نشهد تضافر جهود الجماعات الدينية الإنجيلية والنشطاء والمشاهير لحث قادة مجموعة الدول الثماني الصناعية الكبرى في اجتماعهم هذا الأسبوع للقضاء على الفقر وجعل آفته جزءاً من التاريخ. وفي غضون ذلك تعالت موسيقى الروك في الحفلات التي نظمها الفنانون عبر العالم للضغط على الدول الغنية كي تخصص 0.7% من دخلها الوطني الإجمالي لدعم جهود التنمية في دول ما وراء البحار بحلول عام 2015، كما تهدف تلك الضغوط إلى وقف الإعانات المالية التي تقدمها الحكومات إلى المزارعين والقضاء على الأمراض الفتاكة. وتتبدى أهمية هذه اللحظة في كونها من اللحظات النادرة التي تتصدر فيها مسألة الحد من الفقر الأجندة الدولية. ولا يسعنا هنا إلا أن نشيد بتلك الجهود ونشجعها.
وإزاء هذه الفورة العالمية يتعين على الرئيس بوش والكونجرس أن ينكبا على دراسة ما الذي تستطيع الولايات المتحدة أن تقدمه لمواجهة هذا التحدي الكبير المتمثل في التقليص من حدة الفقر. وبالرغم من أن الكل متفق على أن أهم عناصر مكافحة الفقر هي إصلاح السياسات الاقتصادية وإرساء حكومات مسؤولة، إلا أن ذلك لا يقلل من أهمية الدعم الضروري للدول الغنية. وإلى حد الآن قامت إدارة بوش بالموافقة على إلغاء محدود للديون وأعلنت عن برنامج جديد للوقاية من الملاريا، ولكنها لم تلتزم برفع مساعداتها إلى 0.7% كما هو متفق، ولم تتعهد بوقف تقديم الدعم المالي للمزارعين.
وبالرغم من تعهد الرئيس بوش بمضاعفة الدعم لإفريقيا بحلول 2010، إلا أن كل ما قام به الرئيس هو التقيُّد بوعوده السابقة في تمويل برنامج قديم يطلق عليه "تقرير تحديات الألفية الجديدة" والاستمرار في مبادرة محاربة الإيدز التي كان قد أطلقها في الماضي. وحتى عندما يزعم الرئيس بأنه قام خلال السنوات الأربع الأخيرة بمضاعفة المساعدات الإفريقية ثلاث مرات، فإن الحقائق تشير إلى أن تلك المساعدات بالكاد تضاعفت مرتين. وإذا كانت الإعانات قد ارتفعت بالفعل فقد ظلت حبيسة الخطط المالية حيث توجه أكثر من نصف تلك الأموال إلى المعونات الغذائية الطارئة عوض أن ترصد إلى المساعدات الكفيلة بالتخفيف من وطأة الفقر.
بات من الواضح الآن أن على إدارة بوش أن تعيد النظر في التزاماتها المتواضعة، لأنه كما عبَّر عن ذلك الرئيس يمكن للفقر، حتى في المناطق البعيدة، أن يقوِّض أمننا القومي. فعندما يكون نصف سكان العالم يعيشون على أقل من دولارين في اليوم، فإن الولايات المتحدة لن تستطيع إحلال أمن دائم ومستتب فقط عن طريق دعمها للحرية، إلا إذا كانت الحرية تشمل التحرر من العوز والفاقة. ومن المعلوم أنه من بين أهم التحديات التي تواجه الولايات المتحدة وأكثرها خطورة في عصر العولمة هي تلك الأخطار الأمنية العابرة للحدود كالأوبئة والجريمة وتجارة المخدرات والتدهور البيئي وانتشار الأسلحة والإرهاب وكل تلك الأخطار تجد لها بيئة حاضنة في مناطق النزاعات والدول الضعيفة. وفي هذا المعنى تشير العديد من الدراسات إلى أن الفقر يغذي الصراعات, حيث كشفت الوزارة البريطانية المكلفة بالتنمية الدولية بأن احتمالات اندلاع الصراعات خلال الخمس سنوات المقبلة تصل إلى 15% عند تلك الدول التي لا يتعدى دخل الفرد فيها 250 دولاراً. أما عندما يصل الدخل الفردي إلى ألف دولار فإن الخطر يتقلص على نحو كبير ثم ينخفض احتمال نشوب نزاعات إلى 1% إذا بلغ الدخل الفردي 5 آلاف دولار.
ولأن تلك النزاعات تكلف العديد من الضحايا فإنها غالباً ما تتطلب تدخلا إنسانياً عاجلا. غير أن الخطر الأهم هو ما تخلفه تلك الصراعات من فوضى تستغلها بعض القوى الخارجية حيث أنشأت "القاعدة" معسكرات للتدريب في بعض المناطق التي تعصف بها الصراعات كأفغانستان، كما قامت بشراء الألماس من سيراليون وتجنيد أفراد من الشيشان، واستهدفت الجنود الأميركيين في الصومال وها هي تكرر ذلك في العراق. ولا يقتصر ذلك على القاعدة بل قامت شبكات الجريمة والمخدرات باستغلال مناطق الحروب كالبوسنة وكولومبيا. هذا بالإضافة إلى ظهور الأمراض الفتاكة مثل الإيبولا وفيروسات أخرى. وحتى في حالة انعدام النزاعات فإن الفقر يشكل عائقاً أساسياً أمام تعاون الدول مع الولايات المتحدة لمواجهة الأخطار العابرة للحدود. ففي عام 2004 كان معدل الدخل الفردي لـ53 دولة من مختلف مناطق العالم لا يتعدى دولارين في اليوم وهو ما يصعِّب إقامة أي تعاون فعال بين تلك الدول الفقيرة والولايات المتحدة حول القضايا العالمية.
وعندما تكون الدول فقيرة فهي غالباً ما تعجز عن بسط سيطرتها بشكل فعال على أراضيها أو مقدراتها لأنها تفتقد إلى جهاز أمني مقتدر يقوم بمراقبة الحدود، كما أنها لا تتوفر على جهاز قضائي أو جيش فعالين، فضلا عن انتشار الفساد المالي بين مسؤولي تلك الدول. وقد قام تنظيم "القاعدة" بتوظيف بعض الدول الضعيفة مثل موريتانيا وكينيا واليمن كمأوى لتخطيط الهجمات وجمع الأموال. أما المنظمات الإجرامية فقد وجدت أرضاً ملا