ما من دولة متقدمة في العالم إلا وتجدها تشكو من ضعف أداء طلاب مدارسها، إلا نحن، بل تجدنا نرفض الحديث عن تطوير التعليم ونسميه تعديل المناهج ونصر على أنه مؤامرة أميركية، والحقيقة أننا نتآمر بأنفسنا على أنفسنا وعلى مستقبل وطننا وقدراتنا وموقعنا في العالم.
إدخال الإنجليزية إلى المدارس الابتدائية يتحول إلى قضية متعلقة بالهوية الوطنية والدينية، واكتساب المهارات الفنية يصبح إفساداً وسوء خلق، الاهتمام بالعلوم والرياضيات يصبح مؤامرة لإقصاء الدين عن الحياة، والغريب أن الجميع بعد ذلك كله يريدون من الدولة وظائف ومزيداً من الوظائف لأبنائهم، هؤلاء الأبناء غير القادرين والمفتقدين للمهارات الأساسية من أجل حياة أفضل، وأستشهد هنا برأي خبير في التعليم هو الدكتور راكان حبيب الأستاذ في جامعة الملك عبدالعزيز في جدة والذي طالما استمعت إليه وهو يشكو من طلبته الذين يقذف بهم إلى الجامعة نظام تعليمي قاصر، فيجدهم لا يحسنون حتى كتابة جملة مفيدة في خارج موضوع الدرس لعله يعطيهم عليها علامة تقدير، فكتب قبل أكثر من عقد ما يلي: "إذا دققنا فيما يكتبه الطلاب سوف نجد أن نسبة كبيرة من كتاباتهم تعكس عدم تعلمهم نظام الكتابة وعدم القدرة على إيصال المعلومة والسبب في ذلك أننا لا نهتم بتدريس نظامها وبالتالي نجهل ما فيها من تفكير ومنطق.. ومن ثم ننسى أنها مهارة يقصد بها تفعيل ما يراد قوله حتى يتاح فهمه للناس".
الأسبوع الماضي بشرنا الدكتور راكان بأنه اعتمد أخيراً وبعد 11 عاماً من التأمل والتفكير مادة تعليمية جديدة تدعى "مهارات الاتصال"، وقال إنه حضر ورشة عمل عقدت في جامعته لتدريب 30 مبتعثاً للولايات المتحدة لتعلم تدريس هذه المادة الجديدة. يبدو أننا جميعاً لا نجيد مهارات الاتصال فاحتاج موضوع حيوي ومهم كهذا كل هذا الوقت لاتخاذ قرار في شأنه. إن هذا التأخير يعكس الصعوبة التي تواجه عملية تطوير المناهج في المملكة.
ذلك أن العملية تمت أدلجتها على ما في ذلك من إضعاف للوطن وإهدار للوقت وتشتيت للجهد، وليتنا لا ننظر للموضوع من زاوية "قدر أقل من الدين في مناهجنا أم قدر أكبر"، فقدر الدين في حياتنا قائم دوماً دون مزايدة المزايدين ممن "يحفظون البخاري ويزيدون فيه" كما يقول المغاربة في مثلهم الدارج، وإنما ننظر من زاوية "كفاءة مخرجات نظام التعليم الحالي، واحتياجات سوق العمل". فنحن بلد نامٍ رغم وقع هذه الكلمة المؤلمة على ذاتنا المنتفخة، ولدينا بطالة مع وجود وظائف شاغرة وهي حالة نادرة لا تعني سوى شيء واحد هو خلل في مخرجات التعليم وبعدها تأتي الأسباب الأخرى.
بعد الصيف ومع عودة المدارس سيكون الموضوع المعتاد في الصحف البريطانية أو الأميركية هو إصلاح التعليم بدون أن يقفز أحد هناك من على مقعده، موضوع لا يملون منه رغم التقدم العلمي والاقتصادي في بلدانهم، يجرون الاختبارات الدورية على قدرات أبنائهم ويقارنونها مع البلدان الأخرى. هاجسهم دول مثل سنغافورة أو كوريا ويغيظهم أن الطالب هناك يحقق نتائج أفضل في العلوم والرياضيات،. لقد أجرينا مثل هذه الامتحانات، وأتمنى لو يعلن عن نتائجها المخيفة معالي وزير التربية والتعليم لأولئك الذين يستهلكون جهده ووقته في جدل بيزنطي عقيم يسوِّفون به الوقت لوأد مشاريع الإصلاح التعليمي. كل ذلك يجري بينما العالم يتغير من حولنا، ويلقي بثقله الضاغط علينا اقتصادياً.
لقد أضحت "مخرجات التعليم" سلعة تصدر، أن الآسيويين يغزون العالم، ويحصلون على أفضل الوظائف في المستشفيات والجامعات والمصانع الأميركية والبريطانية لمجرد أن تعليمهم جيد، بينما نعجز عن شغر وظائفنا الشاغرة أو التي يشغرها آسيوي يسعى حالياً للهجرة إلى الغرب وسوف يفعلها فور أن تتاح له الفرصة.
في الأسبوع الماضي جمعتني طاولة عشاء في العاصمة البلجيكية بروكسل مع عضو في البرلمان الفليبيني، روى لي أنه زار ابنة أخيه الممرضة في إحدى مستشفيات مدينة برادفورد البريطانية، وهي واحدة من بين أكثر من 20 ألف ممرض وممرضة هاجروا للعمل في المستشفيات البريطانية، ومزيد منهم في الطريق، قال إن الهيئة الطبية الفليبينية وصفت ما يجري بأنه ليس مجرد هجرة للعقول وإنما "كارثة بالصحة العامة" في الفلبيين. ولكن لا أحد بما في ذلك البرلمان الفليبيني يستطيع أن يصدر تشريع بمنع هذه الهجرة "كيف أحرم شابة من فرصة عمرها ستحصل على راتب ضعف راتبها عدة مرات، وحياة أفضل واستقرار معيشي"، وأضاف مبتسما "أن ابنة أخي وعمرها 24 عاماً امتلكت شقة وسيارة وهي لم تأتِ لبريطانيا إلا قبل عامين فقط ولو أمضت عمرها كله في الفلبيين ما كان لها تحصل على كل هذا".
إن الإنجليز لا يوظفون الفليبينيين لأنهم يقبلون برواتب أقل، فالقانون هناك يمنع التمييز في الراتب، وبالتالي يحصلون على نفس راتب ابن البلد الإنجليزي، إنه التعليم والكفاءة، وهو نفس السبب الذي جعل مستشفياتنا تعتمد اعتماداً كاملا على التمريض من الفلبيين، بالإضافة إلى رخص رواتبهم. ذلك أننا لا نمنع التمييز في الراتب ولا أع