كلنا يعلم التأثير الذي اخترق الثقافة القروسطية الأوروبية من عالم دار الإسلام، وكيف نجتر الآن الأحاديث البايتة حول فضل العرب على أوروبا (بالمناسبة أميركا ليست داخلة في الموضوع)، بل ندعي أن أوروبا لم تعرف الصابون والاستحمام قبل الحروب الصليبية وتأثرهم بالحضارة الإسلامية أو العربية. كلام مكرر، لكن هل انتبه أحد إلى أن المراجع الأوروبية لم تشر مطلقاً إلى ظاهرة الغزو الثقافي؟ صحيح أن الكنيسة كانت تعذب وتحرق المبدعين والداعين إلى العقلانية بعيداً عن مقولات الكتاب المقدس، وهو مبدأ يشترك فيه الفكر الديني في كل زمان ومكان، يعني، لو يحصل للتيار الديني أن يحرق الليبراليين.. فلن يتردد.
العرب بدورهم يتحدثون ويكررون ويلوكون حكاية "الفضل" العربي والإسلامي الحضاري على الغرب، ولا أحد من الباحثين العرب يسميه الغزو الثقافي الإسلامي. لكن حين انقلب الحال، وأصبحنا نستجدي العلم والثقافة الغربية سواء بإرسال أبنائنا للدراسة عندهم، أو المراجع التي نستخدمها بالاستيراد منهم. أخذنا -والصحيح أخذ القوميون الإسلاميون- بالصياح والنباح والندب واللطم وشق الجيوب، وصدعوا رأسنا بحكاية الغزو الثقافي الغربي... حقاً لا توجد أمانة في العرض، إذا كان التأثير منّا فيهم، كان يُعد هذا "فضلاً"، وحين تغير اتجاه الريح منهم إلينا، أصبح يُعد هذا "غزواً"!
لكن، هل حكاية هذا الغزو "صحيحة"؟ وما هو حالنا لو أننا ظللنا على حالنا التي وصفها الجبرتي يوم وقعت واقعة الغزو الفرنسي لمصر، وأرغم العالم العربي المظلم فكرياً على دخول عصر الأنوار. هذه الأنوار التي قام التيار الديني -جزاه الله كل خير- بتكسيرها، ويضع الظلمة فوق النور. منذ ذلك الغزو، والعرب يتحدثون عن الغزو الثقافي وهم في نفس الوقت يستعينون بالغرب في كل صغيرة وكبيرة. فالمستعمر الغربي هو الذي علّمنا الدستور والبرلمان وحرية الصحافة، وأحسن إلينا بفصل القانون المدني عن القانون الديني، وفصل التعليم المدني عن التعليم الديني (قامت الجزائر في الأسبوع الماضي بإلغاء تدريس الدين في المرحلة الثانوية وقامت قيامة الخيبانين علمياً)، ودخل العالم العربي كله تدريجياً عصراً جديداً حيث تم تقييد الأنظمة الملكية بالقانون، وعرف الناس نعمة الديمقراطية والحرية والانتخابات العامة، والتعليم المتطور والصحافة. وعاش العرب طويلاً في ظل هذه النعمة الإنسانية الجديدة.. وكانوا بخير وعافية حتى أناخ عليهم الفكر الديني بكلكله، فأخذت الألسن تلعلع بحكاية الغزو الثقافي!
الحضارة اليونانية أخذت من الحضارة الفرعونية كما يتبين من كتاب "أثينا السوداء"، والحضارة الإسلامية أخذت من كل حضارات المناطق التي غزاها -عفواً فتحها- المسلمون سيفاً أو صلحاً. أخذ العلماء والفلاسفة وحتى الفقهاء من الحضارات اليونانية والفارسية والهندية، ولم نقرأ في أي مرجع من مراجعهم كلمة غزو! لماذا الآن؟ أعتقد أن الإجابة بسيطة وهي حالة الضعف الفكري والانحدار الثقافي التي يمر بها عالمنا العربي. فالجسم المريض لا يتحمل العيش في ظل الجو الطبيعي، يريد أن يعيش في خيمة الأكسجين، وهو يعلم أن البقاء طويلاً في خيمة الأكسجين يعني العزلة عن الآخرين والتوجه نحو الموت البطيء. وهذا هو حال الأمة العربية اليوم التي لا تتنفس إلا الفكر الديني، وترفض المناخ الطبيعي حيث المشاركة مع الآخرين نعمة الحياة الطبيعية. كيف توهم الآخرين وتقنعهم بوجهة نظرك حتى يعيشوا معك في هذه العزلة؟ تخيفهم بحكاية الغزو إياها؟ وطبعاً شعوبنا العربية تنعم بحمد الله بنعمة اللاتفكير وعقلية اللامنطق، ومن ثم لا تسأل نفسها، إذا كان الأمر غزواً، لماذا لا أحارب لأثبت وجودي بدلاً من الانعزال؟ وهي لا تلام لأن أسلحة الفكر الديني كلها أسلحة بلا ذخيرة.