بعد أيام معدودات وتحديداً في اليوم التاسع من يوليو تدخل تركيبة جهاز الحكم في السودان مرحلة جديدة. فيتولى الدكتور جون قرنق منصب النائب الأول لرئيس الجمهورية وتشكل حكومة أوسع من الحالية تضم فئات بعيدة عن الحكم الذي انفردت به الجبهة الإسلامية منذ 30 يونيو 1989. تعيش الخرطوم هذا الأسبوع أجواء ما قبل استيلاء الإسلامويين على الحكم, عندما كان العمل السياسي والدعائي حلالاً للكل وليس وقفاً على فئة واحدة. فقد تم عقد أول لقاء سياسي علني، احتشدت له الجماهير للاستماع للأستاذ محمد إبراهيم نقد، الأمين العام للحزب الشيوعي السوداني يتحدث بموضوعية ناقداً سياسات النظام الأحادي, مشدداً على أن التركيز يجب أن يكون على فتح الآفاق للانتقال للديمقراطية وليس للبحث عن مناصب هنا أو هناك. وانتقد نقد اتفاق القاهرة الأخير بين الحكومة والتجمع المعارض ووصفه بالضعيف.
الاجتماع السياسي الشعبي انعقد في ميدان كبير من ميادين الخرطوم ويعني بداية ممارسة المعارضين لحريتهم. وبالطبع فإن هذه النقلة في العمل السياسي العلني ما كانت ممكنة إلا بعد أن تم التوافق بين الحكومة والتجمع الوطني الديمقراطي عبر اتفاق شهده وشجع عليه الرئيس المصري والعقيد قرنق. ورغم توقيع هذا الاتفاق من كل الأطراف المعنية فإن تنفيذه على الواقع لن يكون سهلا, وذلك لأن التجمع يطالب بإجراءات سياسية وقانونية وإدارية من شأنها أن تغير، إذا ما نفذت، وجه الواقع الكئيب للحالة السياسية القاتمة في السودان وتفتح المسالك لنظام ديمقراطي لا يكون الأمر فيه للإسلامويين وحدهم ولا حتى لشراكتهم مع حركة قرنق التي ما زالت هي نفسها في طور تشوبه كثير من الأشواك والمزالق.
من بين ما نصت عليه اتفاقية القاهرة إلغاء حالة الطوارئ المفروضة منذ 16 عاماً وإخلاء السجون من المعتقلين السياسيين وإطلاق كل الحريات وأهمها حرية النقابات واستقلالها وحرية الصحافة وحرية الأحزاب في العمل إضافة إلى رد المظالم كاملة غير ناقصة وإعادة جهاز الدولة من خدمة مدنية وعسكرية إلى نقائه السابق وتطهيره بعد أن أصبح كله حكرا على الجبهة الإسلامية وحلفائها.
إن التجمع الوطني الديمقراطي بوصفه أكبر تنظيمات المعارضة وكذلك حزب الأمة الذي لم يشترك في اتفاقية القاهرة، كل هذه القوى السياسية تواجه الآن خيارين واضحين عليها أن تختار أحدهما, إما المشاركة في الحكم رغم ضعف وهزال النسبة المئوية التي تركت لها وبذلك تبقى جزءا من الحكم خلال الفترة الانتقالية. أو تختار هذه القوى السياسية طريق المعارضة السلمية وتقف بعيداً عن الحكم وتمارس نشاطاً معارضاً يعتمد على الجماهير وإعادة تنظيم النقابات العمالية والمهنية وتنشيط كل وسائل العمل التعبوي والدعائي لفضح ما كان في"عهد الإنقاذ", وما قد يكون في المستقبل من ضغط من الشريكين... الحكومة الحالية وحركة قرنق.
لا أعتقد أن للمعارضة الحالية طرقا أو وسائل للعمل السلمي غير هذين الوسيلتين. والخيار متروك لقيادات هذه الفصائل أو القوى السياسية, وإن كان الراجح حتى الآن أن التجمع الوطني الديمقراطي يميل للمشاركة في الحكم وليس توسيع العمل المعارض. أما حزب الأمة بقيادة الصادق المهدي فإنه حدد أحد الخيارين, وهو المعارضة. إن كل هذه المعطيات تعني أن السودان دخل مرحلة جديدة تتضح معالمها في العاصمة والوسط, أما أزمات دارفور والشرق فما زالت مكانها خاضعة للجدل والمناقشة بمشاركة إقليمية وأخرى دولية.