في آخر وأوسع استطلاعات الرأي التي أجراها "مشروع بيو لقياس اتجاهات السلوك العالمي", وشمل ست عشرة دولة بما فيها الولايات المتحدة الأميركية, تكشفت الجراح والكدمات التي خلفها الجدل واختلاف الرأي العالمي, حول الحرب الأميركية الأخيرة على العراق. وكانت نادرة جداً تلك الحالات, التي لمس فيها استطلاع الرأي العالمي المذكور, تأييداً أو حماساً يذكر إزاء الولايات المتحدة الأميركية منذ ارتفاع حمى الحرب وطبولها المدوية في عام 2003. إلى ذلك فإن الاتجاه العام لاستطلاع الرأي يكشف أن أميركا أصبحت تثير اليوم من القلق والمخاوف, أكثر مما تثير من الإعجاب.
ففي خمس دول وحسب من الست عشرة دولة التي شملها استطلاع الرأي, أبدت الأغلبية موقفاً إيجابياً في تقييمها لأداء ودور الولايات المتحدة الأميركية في المسرح الدولي. وفي اثنتي عشرة دولة من هذه الدول – بما فيها بريطانيا التي تعتبر حليفاً تقليدياً لأميركا- كان رأي الأغلبية أكثر ميلاً لتفضيل الصين على أميركا. وفيما عدا باكستان وروسيا, فإن تفضيل الأغلبية للولايات المتحدة –حيثما توفرت البيانات واستطلاعات الرأي للمقارنة- كان أدنى بكثير هذا العام, قياساً إلى ما كان عليه في عام 2000.
ثم يزداد الأمر سوءاً حين ندرك انفراد الصين والهند فحسب, بأغلبية من المواطنين من الذين شملهم استطلاع الرأي, بالقول إن السياسات الخارجية التي تتبعها الولايات المتحدة الأميركية, تضع وتأخذ في الاعتبار مصالح الدول والأمم الأخرى!
وفيما عدا أميركا والهند, فإن رأي الأغلبية الغالبة في بقية البلدان الأخرى, هو أن الحرب على العراق قد جعلت العالم أشد خطراً, بدلاً من أن تجعله أكثر أمناً كما وعدت واشنطن. أما غالبية الجمهور الذي استطلعت آراؤه في دول أوروبا الغربية, فترى أن من واجب دولها وبلدانها أن تحرر نفسها من شدة ارتباطها التقليدي القديم بالولايات المتحدة. إلى ذلك عبرت أغلبية كبيرة في خمس دول إسلامية, هي باكستان وتركيا ولبنان والأردن وإندونيسيا, عن تخوفها -على أقل تقدير- من أن تشكل أميركا, خطراً أمنياً عسكرياً على بلدانها في المستقبل.
وفي الاتجاه السلبي نفسه, لم تنفرد إلا أميركا والهند وحدهما, بأغلبية لا تزال تعبر عن ثقتها بقدرة الرئيس جورج بوش, على القيام بما هو صحيح ولازم نحو العلاقات الدولية. في المقابل, فإن من رأي أغلبية تصل إلى نحو 60 في المئة, في دول متباينة أشد ما يكون التباين, تشمل كلاً من باكستان, تركيا, كندا, وبريطانيا العظمى وفرنسا, أنه ليس ثمة ثقة تذكر في الأحكام التي يصدرها الرئيس بوش وتقييمه لمجريات ساحة العلاقات الدولية, ناهيك عن أن يفعل شيئاً إزاءها.
والغريب أن تكون إحدى الاستجابات لنتائج استطلاعات الرأي هذه, عبارة "ومن ذا الذي يبالي؟". كانت تلك هي استجابة نائب الرئيس "ديك تشيني", لدى سؤال "وولف بليتزر" مذيع شبكة "سي.إن.إن" له عن رأيه فيما أعلن من نتائج الاستطلاع المذكور!
وجاء أيضاًَ ضمن رد "تشيني", أن على أميركا أن تتبع المبادئ التي تؤمن هي بها, وهي تسعى لتحقيق أهدافها وحماية مصالحها داخلياً وخارجياً. وكان الجزء الضمني الذي لم يقله "تشيني" صراحة في ذلك الرد, هو أن على أميركا ألا تبدي قلقاً كبيراً إزاء ما يبدر من الشعوب والبلدان الأخرى من ردود أفعال. لكن ومن زاوية هذه القناعة القائلة إن على أميركا أن تتبع مبادئها هي, في تحقيق أهدافها وحماية مصالحها القومية, فإن هناك ما يثير القلق في إجابة تشيني هذه, لكون بناء التحالفات الدولية, يعتبر بحد ذاته, مبدأً من المبادئ الرئيسية التي تحكم سلوك أميركا وعلاقاتها مع العالم الخارجي. وعليه فإنه لا يزال صحيحاً من الناحية الاستراتيجية, أن نجاح التحالفات الدولية, يذلل كثيراً واجب تحقيق الأهداف وحماية المصالح القومية الأميركية.
وبناءً على نتائج استطلاعات الرأي هذه, فإنه يصعب جداً تفادي الإقرار بردة الفعل السلبية, التي أسفرت عن سلوك ومواقف دولية معادية للولايات المتحدة, جراء السياسات الخارجية التي تنتهجها إدارة بوش, وما عرف عن هذه السياسات من تشديد على حرية أميركا على أن تعمل منفردة وبصرف النظر عن إرادة ورأي المجتمع الدولي وحلفائها. والشاهد أن السياسات إياها, قد عمقت كثيراً مشاعر العداء التي أبدتها الشعوب لواشنطن. بيد أن من السذاجة الاعتقاد في ذات الوقت, أن العالم الخارجي –لا سيما أوروبا الغربية- سيستقبل الرئيس الأميركي بالورود والزهور, فيما لو أبدى قدراً أكبر من المرونة والتشاور مع العالم الخارجي.
ألم يكن الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون مرناً ومتعاوناً؟ ولكن, ألم تكن أوروبا على أشد العداء معه أيضاً؟ يعني هذا أنه سوف يكون لزاماً –حتى على رئيس أميركي قادر على التحدث باللغة الفرنسية- أن يصارع من أجل بلورة دور للولايات المتحدة في القرن الحادي والعشرين, لا يثير تذمر الدول الأخرى ونقمتها وامتعاضها منه.
غير أن "بيتر فينر" – مدير المبادرات الاستراتيجية في البيت الأبيض