من الواضح أن مؤلف الكتاب ريتشارد هاس ينتمي إلى تلك العينة من الخبراء الذين عركتهم الحياة السياسية في أروقة الحزب الجمهوري حيث كان مسؤولا عن السياسة الخارجية للحزب. وعمل مع الإدارات الأميركية المتعاقبة لقدرته العالية على التحليل وتقديم المشورة إلى المسؤولين الأميركيين. وبالرغم من كونه أحد أعمدة السياسة الخارجية للحزب الجمهوري إلا أنه لا يصنف مع فئة المحافظين الجدد، حيث لا يستنكف على توجيه الانتقادات إلى سياساتهم الخارجية. ويأتي هذا الكتاب ليفند الكثير من المزاعم والمقولات التي يطرحها المحافظون الجدد وليضع قواعد جديدة تساعد أميركا بحسب رأيه في صنع مستقبل القرن الحادي والعشرين بالنظر إلى قوتها العسكرية والاقتصادية والسياسية الكبيرة وغياب أي منافس حقيقي في ظل انهيار المعسكر الاشتراكي.
والمؤلف يمتلك نظرة واقعية عن العالم تبعده عن الأطروحات المثالية للمحافظين الجدد وخطابهم الدوغمائي الذي يسعى في كثير من الأحيان إلى تصوير الولايات المتحدة كقوة جبارة لا توازيها أية قوة عالمية أخرى, وهي بذلك يتعين عليها التدخل في جميع مشاكل العالم وعدم التردد في تغيير الأنظمة إن استدعى الأمر ذلك. وتتجلى النظرة الواقعية لريتشارد هاس منذ الصفحات الأولى للكتاب حيث يستهل الفصل الأول بتعداد الأخطار المحدقة بأميركا والاعتراف بتأثيرها على الأمن القومي للبلد، إذ يشير إلى الإرهاب العالمي الذي بات يؤرق العديد من الحكومات العالمية ويزعزع الاستقرار السياسي للكثير من البلدان. وقد يعتقد القارئ للوهلة الأولى أن المؤلف الخبير في العلاقات الخارجية والأمن القومي مغرق في نظرته السوداوية للأمور عندما يقول مثلا "يعتبر الإرهاب جزءا لا يتجزأ من النسيج المعاصر للحياة. وفي أحسن الأحوال سوف نتعايش معه أما في أسوئها فإننا سنموت من جرائه. ولم تعد المسألة هي هل سنتعرض لهجوم إرهابي أم لا، بل متى سيحصل ذلك?". غير أن هذه النظرة التشاؤمية، والتي ليست في واقع الأمر سوى اعتراف رزين من المؤلف بالتهديدات المحتملة المحدقة بأميركا، سرعان ما تفسح المجال لقناعة راسخة في ذهن الكاتب مفادها أن أمام أميركا فرصة لا تعوض لإعادة صياغة العالم وتشكيله بالطريقة التي تجعله بمنأى عن القلاقل والاضطرابات، وفي نفس الوقت ينعم بالاستقرار والازدهار.
ولكن بخلاف المحافظين الجدد الذين يسعون إلى تغيير العالم بالقوة وفرض الإرادة الأميركية ونموذجها الديمقراطي على باقي الدول نجد ريتشارد هاس يتبنى نظرة مغايرة تعتبر أن أميركا وإن كانت أمامها فرصة كبيرة لتشكيل العالم فإن ذلك لن يتم بشكل أحادي بل سيتم بمشاركة عالمية، خصوصا مع باقي القوى كالاتحاد الأوربي واليابان. إن ما يركز عليه المؤلف هو الأسلوب الذي يتبع في إرساء التغير حيث يرى أن لا سبيل لإحداثه دون تعاون دولي يسهم في إشاعة السلام بين شعوب الأرض. ويتابع هاس تحليله للوضع العالمي في هذه المرحلة مشيرا إلى حالة التخبط وعدم الوضوح التي تطبع العقود الأخيرة والناتجة عن عدم انبثاق أية استراتيجية أو وصف يمكن أن ينطبق على عالم القرن الحادي والعشرين، خصوصا بعد انتهاء الحرب الباردة وعدم تشكل أية إيديولوجية محددة تحكم العالم وتنظمه. ولأن الطبيعة تكره الفراغ فإن الفكرة الأساسية التي يحاول الكاتب إيصالها لأصحاب القرار في البيت الأبيض هي أن الفرصة مواتية لأميركا كي تملأ ذلك الفراغ وتقوم بقيادة العالم. ولكنه يذكرنا دائما أن هذه القيادة يجب ألا تنبني على الغطرسة والطموحات الإمبريالية بل على التعاون مع القوى الأخرى للتصدي للمشكلات التي يعاني منها العالم.
وهي فرصة مواتية فعلا للولايات المتحدة بالنظر إلى القوة الهائلة التي تتمتع بها على كافة الأصعدة وهي قوة غير مسبوقة في التاريخ ولم تصلها أي إمبراطورية من قبل. ويظهر ذلك من خلال ما تنفقه أميركا سنويا على التسليح وتطوير التكنولوجيا العسكرية الجديدة حيث تصل ميزانيتها السنوية المخصصة للدفاع إلى 500 مليار دولار، وهي بذلك تفوق ما تنفقه الصين وروسيا والهند واليابان وأوروبا مجتمعة. وقد بلغت الآلة العسكرية الأميركية قدرة فائقة من الجودة لا تضاهيها أية قوة أخرى من حيث دقتها وسرعة حركتها. والنتيجة أن ميزان القوة العسكرية أصبح مائلا بوضوح إلى جهة الولايات المتحدة بدون منازع. كما أن القوة الاقتصادية لأميركا هي الأولى في العالم حيث يبلغ الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة 11 تريليون دولار في السنة مشكلا بذلك أكثر من 20% من الإنتاج العالمي وهو ما يعادل الناتج السنوي الإجمالي من البضائع والخدمات لخمس وعشرين دولة من الاتحاد الأوروبي مجتمعة أو هو يعادل قيمة ما تنتجه كل من الصين واليابان وألمانيا والمملكة المتحدة وفرنسا في آن واحد. وليس من شك أن القوة العسكرية والاقتصادية تمنح أميركا نفوذا سياسيا مهما في العالم. فقد كانت الولايات المتحدة من أولى الدول المؤسسة للأمم المتحدة في الأربعينيات، كما أنها أحد الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن وتتمتع