أي مستقبل لمصر العربية، وللعرب ككل، في إطار النظام العالمي، وكجزء مما يسمى في المرحلة الراهنة "عالم الجنوب" أو ما كان يسمى ذات يوم بـ"العالم الثالث"؟ ذلك هو السؤال الذي ينشغل بتقديم إجابته الدكتور محمد عبد الشفيع، أستاذ العلاقات الدولية الاقتصادية، في كتابه الجديد "مسارات المستقبل العربي والمصري"، والذي يستهله بعرض تحليلي حول مفهوم الجنوب وما يتصل به من مفاهيم تغيرت حمولتها إلى حد كبير بفعل التطورات الدولية العاصفة خلال عقد التسعينيات من القرن الماضي، ويتطرق إلى مسيرة التطورات في آسيا وأميركا اللاتينية ودلالتها إزاء المستقبل العربي، فيُعني خاصة بتجربة آسيا الشرقية (من المعجزة إلى الأزمة)، ليقدم دروس النجاح الآسيوي ثم دروس خفوته في السنوات الأخيرة. فرغم أن أكثر القراءات رواجا حول تلك التجربة استندت إلى إعلاء قوى السوق نحو مرتبة القوة الدافعة الوحيدة للنمو الاقتصادي، فإن المؤلف، عكسا لذلك، يستنتج بأن تدخل الدولة شكل القوة الدافعة الرئيسية للنمو الاقتصادي الآسيوي خلال الفترة بين ستينيات وتسعينيات القرن العشرين، وبصفة خاصة في بلدان الجيل الأول وهي الصين وكوريا الجنوبية وتايوان، حيث تميز "التدخل الفعال" للدولة في هذه البلدان بسمات أهمها المرونة والانتقائية والتناسق والتركيز، بل كان الشرط الأساسي لهذا التدخل هو "قوة الدولة" أي استقلاليتها النسبية إزاء الجماعات الاجتماعية المختلفة، والتزامها الحاسم بتحقيق التنمية في إطار للتفاهم مع رأس المال الخاص، ومن ثم كانت "دولة تنموية" يمثل الإنجاز الاقتصادي قاعدة الشرعية الأساسية لنظامها السياسي القائم. وتأكيدا على دور الدولة في تجربة النجاح الآسيوي، يعتقد المؤلف أن الأزمة التي ألمت بذلك النموذج بين عامي 1997 و1999 إنما بدأت أسبابها الحقيقية حين أخذ رأس المال المحلي في الاستعصاء على السلطة الإشرافية للدولة، واتجه نحو نظيره الأجنبي ممهدا لسيطرة التحالفات الاحتكارية الكبرى.
ويستنتج المؤلف درسين آخرين من تلك التجربة التي قامت في مناخات الحرب الباردة، أولهما التأكيد على عدم الانخراط في اندماج غير مشروط بالنظام الرأسمالي العالمي، وثانيهما أهمية الاستناد إلى قاعدة للقوة الذاتية بقدر الإمكان. كما تقدم تلك التجربة درسا رابعا هو إحداث التحول التكنولوجي في إطار المبادرة الذاتية للمجتمع المحلي، بينما ينطلق الدرس الخامس من النواقص الاجتماعية في التجربة الآسيوية ذاتها ليدعو إلى "تنمية مع عدالة في التوزيع منذ البداية".
وعن دلالات التجربة الآسيوية فيما يخص سيناريوهات المستقبل العربي (والمصري)، يعتقد المؤلف أنه بينما بدأت تنمية شرق آسيا بإشعاع من الخارج إلى الداخل، فإن تنمية مصر ستبدأ بإشعاع من الداخل – المصري العربي- إلى الخارج العالمي. بل تقدم آسيا درسا عاما بالغ الأهمية في تحقيق التكامل الإقليمي، حيث إن إقامة تجمع اقتصادي عربي منتج، على غرار تجمعي "الآسيان" و"الإيباك"، سيعزز المقدرة المصرية في مواجهة الاحتكارات الدولية المهيمنة، وهي الاحتكارات التي جعلت من العسير جدا تكرار النموذج الآسيوي في مناطق أخرى من عالم الجنوب. وهنا يتجه المؤلف ليتفحص تجربة أميركا اللاتينية التي يعتبر أنها (خلافا لشرق وجنوب شرق آسيا بصفة خاصة) وقعت ضحية تطورها الاقتصادي والاجتماعي، ودفعت ثمن اندماجها العميق في النظام الاقتصادي العالمي. ومن خلال استعراضه تطورات التاريخ المعاصر في أميركا اللاتينية، يتوقع أن يتسم مسار التحول في هذه القارة بالتقطع والارتباك من حول مشروعات متعارضة للقوى المحلية والدولية المتنازعة، وهو الوضع الذي يبدو شبيها، في جانبه الجوهري، بالحالة العربية عامة، مما يدفع المؤلف إلى التفكير والعمل نحو التفتيش عن صورة للمستقبل تلائم مصالح القوى الاجتماعية الرئيسية ذات التراث النضالي.
وفي محور آخر يحاول الكتاب تقديم رسم كامل لتنظيمات الجنوب خلال مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ويتصور العلاقة المتبادلة بين حقائق هذه التنظيمات والمشاهد المتباينة للمستقبل العربي- المصري، في سيناريوهين أساسيين: أولهما أن الواقع الراهن لتنظيمات الجنوب يمكن أن يساعد على تكريس الوضع القائم، أي ما يسميه الكاتب "السيناريو المرجعي". بينما يفترض السيناريو الثاني أن القوى الاجتماعية الشعبية في مصر والبلدان العربية ربما تستطيع أن تحقق تغييرا نوعيا في التوازن السياسي لصالح السيناريو العروبي، مما يغير صورة تنظيمات الجنوب اعتمادا على المكانة التاريخية لمصر ذاتها.
ويقيم المؤلف مجموعة "مسارات المستقبل العربي والمصري" لجهة تركيبها الداخلي وحظوظها في التطبيق؛ وأولها "المسار الاتجاهي"، ويعني استمرار الوضع على ما هو عليه عامة، ويعضد هذا السيناريو تزايد ذكاء الجماعات الحاكمة فيما يخص محاولة التلاؤم مع المستجدات الداخلية والخارجية، وثانيها مسار "الرأسمالية الجديدة" والذي يفترض خوض حرب حقيقية (ليس بالمعنى العسكري) مع قوى الرأسمالية المركزي