تتبنى الولايات المتحدة استراتيجية لتطويق روسيا أثبتت نجاحها حتى الآن. ولكن الهدف الحقيقي لهذه الاستراتيجية يتجاوز روسيا، أو بتعبير أدق يتجاوز جنوب روسيا، ويمتد حتى منطقة الشرق الأوسط.
ورحلة بوش الأخيرة إلى أوروبا توضح طموحاته الأيديولوجية والجيوبوليتيكية. فعندما زار"لاتفيا" الأسبوع الماضي، أثلج الرئيس الأميركي صدر المحافظين في الولايات المتحدة عندما قام بشجب اتفاقية يالطا لعام 1945، التي اعترفت فيها بلاده بتقسيم العالم بين الرأسماليين والشيوعيين عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية.
ولكن الحقيقة هي أن الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت، عندما قام بالتوقيع على تلك الاتفاقية، كان يعترف في الغالب بحقائق العصر السائدة آنذاك. فالجيش الأحمر السوفيتي كان يسيطر بالفعل على شرق أوروبا، ولم يكن أمام الرئيس الأميركي من خيار سوى القبول بتلك الاتفاقية، أو شن حرب أخرى من أجل استعادة دول شرق أوروبا من الاتحاد السوفيتي. إننا الآن نرى اليمين الأميركي وهو يشجب اتفاقية يالطا ويصفها بأنها كانت تمثل عملية "بيع" في ذاك الوقت؛ ولكن الحقيقة هي أن اتفاقية يالطا قد تحولت الآن إلى مجرد حبر على ورق، بعد أن تهاوت مع تهاوي جدار برلين والاتحاد السوفيتي نفسه في أواخر ثمانينيات وأوائل تسعينيات القرن الماضي، وأصبحت ما كانت تعرف بـ"دول أوروبا الأسيرة" لدى الاتحاد السوفيتي حرة الآن. ولذلك فإنه كان من الطبيعي بالنسبة للرئيس بوش، عندما تطرق إلى اتفاقية يالطا مرة ثانية في السابع من مايو الماضي، أن يقوم بشجبها باعتبارها اتفاقية غير عادلة، بل وأن يذهب إلى حد مساواتها بالاتفاقية التي وقعها الاتحاد السوفيتي مع ألمانيا النازية، والتي أشعلت شرارة الحرب العالمية الثانية. ويمثل هذا الموقف من جانب بوش دليلا واضحا على تصميمه على تعزيز موقفه في مواجهة المحافظين داخل الولايات المتحدة، وأمام شعوب الاتحاد السوفيتي السابق خارجها.
علاوة على ذلك سافر بوش إلى جمهورية جورجيا التي كانت تابعة للاتحاد السوفيتي السابق، والتي أصبحت الآن دولة مستقلة جديدة على حدود روسيا، كي يتغنى من خلال خطاب مؤثر بالديمقراطية والديمقراطيات الصغيرة التي تولد في كل مكان.
بيد أن الشيء اللافت للاهتمام، هو أن بوش عندما قام بزيارة الرئيس فلاديمير بوتين في موسكو، لم يكن لديه الكثير كي يقوله للرئيس الروسي المعروف عنه أنه رجل مناوئ للديمقراطية، وينتمي إلى تيار الستالينية الجديدة، ويتباكى علنا على انهيار الإمبراطورية السوفيتية. لذلك فإنني أقول إنه إذا ما أراد بوش أن يكون متسقا مع نفسه، وجادا في دفع "استراتيجيته المتقدمة للحرية"، فإنه ليس لديه مكان لترديد ندائه من أجل "قرن الحرية" أفضل من قلب الكرملين المعتم.
بيد أن هدف بوش ليس تحويل روسيا، لأن آخر شيء يفكر فيه الروس في الحقيقة هو التحول. الشيء الذي يريده بوش بدلا من ذلك، هو أن يقوم بتحييد روسيا التي لا يزال يوجد لديها 22 ألف سلاح نووي، على أن يقوم في نفس الوقت تقريبا بتنفيذ خطته الأصلية التي ترمي إلى إزاحتها عن موقعها باعتبارها القوة المهيمنة في "يورو آسيا".
وهذه الخطة لم تبدأ مع بوش في الحقيقة، وإنما بدأت مع إدارة كلينتون التي قامت بتوسيع الناتو، الحلف العسكري الذي تقوده واشنطن، ومده حتى الحدود الغربية لروسيا.
ولكن إدارة بوش - التي تفكر على مستوى أكبر الآن- تسعى إلى الدخول في تحالفات عسكرية نشطة مع الدول التي تقع على الامتدادات الجنوبية لروسيا أيضا. من بين تلك الدول جورجيا وغيرها من الدول التي كانت تابعة للاتحاد السوفيتي السابق، والتي تسعي الآن إلى الدخول في الفلك الأميركي مثل أوكرانيا وأوزبكستان، وقرغيزستان. وطالما أن بوتين, الذي يحكم دولة تعاني من أمراض قاتلة تتمثل في الفساد المستشري، وإدمان الكحوليات، وانخفاض معدلات المواليد، راغب في احتمال التغلغل الأميركي فيما يطلق عليه الروس اسم "الجوار القريب"، فلا مانع لدى أميركا من ذلك، وسوف تقوم بترك السيد بوتين كي يستبد كما شاء بمملكته المتقلصة، التي تزداد انكماشا على الدوام.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: طالما أن الولايات المتحدة ليست راغبة في " تغيير النظام" في موسكو, فما سبب الاهتمام الشديد للعم سام بوضع المعدات العسكرية في أوروآسيا؟.
كي نتمكن من الإجابة على هذا السؤال، يتعين علينا أولا النظر إلى الخريطة، وتحديدا إلى المساحة الممتدة من"أوروبا الجديدة" وحتى آسيا الوسطى وصولا إلى باكستان حيث تقوم الولايات المتحدة الآن ببناء (قوس قوة) فوق منطقة الشرق الأوسط بهدف تطويقها بالكامل.
بعد النظر إلى الخريطة وفي معرض الإجابة على ذلك السؤال نقول إن محور الاهتمام الحقيقي للسياسة الخارجية الأميركية في القرن الحادي والعشرين هو تحويل الدول العربية وإيران - بوسيلة أو بأخرى- إلى كيانات تعتمد على الولايات المتحدة على غرار العراق وأفغانستان.
فلأسباب متعلقة بمحاربة الإرهاب، وتأمين النفط، أو لأسباب متع