لنعترف أن حياتنا اليوم أقل سعادة، وأن النكتة قد خفت صوتها، وأن البسمة قد تلاشت عن وجوهنا، وأن لحظات الضحك الصادر عن القلب قد أصبحت أقل. كلنا مهموم، سواء الفقير أو المليونير، الكبير والصغير وإن كان الصغير بدرجة أقل. وفي المقابل أصبحنا أضعف من أن نقاوم الأمراض، وامتلأت المستشفيات والعيادات الطبية الخاصة بالمرضى بل وانتعش سوق العلاج الخاص. وبرغم كل مدن الملاهي وأماكن اللهو، وحالة الرفاه والغنى النسبي لمعظم أفراد الشعوب، إلا أن روح المرح وحب الحياة الشفاف قد تلاشى جميعها في عصرنا. والسؤال: لماذا؟ وأين ذهبت هذه الروح، التي كانت تمرح في أجواء حياتنا، برغم تواضع حالتنا المالية؟ اليوم الكل يشكو، وهو آمن في بلده، وعنده قوت يومه، وملابسه نظيفة، وهناك من يقوم على خدمته!
اعتدت حين أقف في إشارة المرور أن أنظر إلى وجوه الناس، ثم أنظر إلى وجهي في مرآة السيارة، فماذا أجد كعامل مشترك بيني والآخرين: غياب البشاشة عن الوجه لسبب مجهول! لا أعتقد أننا بحاجة إلى العالم الشهير فرويد لكي يحلل نفسياتنا ويصل من ثم، إلى الإجابة، وهي بسيطة في رأيي: غياب القناعة من الحياة، والركض الدائم وراء المال، والانغماس المتزايد في الشهوات الإنسانية... وغياب الحريات الفكرية، وهيمنة الفكر الديني على حياتنا، لكن أشد هذه العوامل غياب القناعة من النفس. يروى عن النبى صلى الله عليه وسلم حديث مفاده:
"من بات منكم آمناً في سربه (جماعته وأهله)، معافىً في بدنه، عنده قوت يومه، فقد ملك الدنيا وما فيها".
وهذا هو سر القناعة في الحياة الدنيا، وللأسف أن معظمنا لا يرضى بما قسم الله له من رزق، ولست ضد حق الإنسان أن يبحث عن المزيد من الرزق، لكنْ هناك فرق بين هذا الفعل، وبين أن يكون على حساب الحياة وبهجتها. أو على حساب الصحة أو متعة الجلوس مع الزوجة، رفيقة العمر بضع ساعات لمجرد الحديث حتى ولو كان عابثاً، أو مع الأولاد صغاراً وكباراً لتعرف أحوالهم، وتناكفهم ويناكفونك بعبث الشباب الذي ولى عنك، وصخب الصغار. ولا بأس من قضاء بعض الوقت مع حيوان أليف أو تقليم شجرة ورد، ومن المضحك حقاً، أن كثيراً من الناس يفكر في زراعة خضروات يمكن شراؤها بأرخص الأسعار من السوق، ولا يفكر في زرع وردة! لا شك أن رغبة الإنسان في جمع المال لتوفير مستقبل آمن حق مشروع، لكن حين ينقلب هذا الحق عند الممارسة إلى هوس يومي، كما هو حال الخبال الحاصل اليوم في سوق الأسهم، أعرف أن هناك خطأ ما في حياة هؤلاء. أتألم حين أشاهد أستاذ جامعة يجعل افتتاح يومه مراقبة أسعار الأسهم.
"القناعة كنز لا يفنى"، مثل شعبي صائب يتندر عليه كثير من الناس، لكنه يمثل حقيقة الحياة الطبيعية، إذ لو قنع الواحد منا بما لديه وتعايش معه، لتغيرت الأحوال كثيراً. ومما يؤسف له أن الواحد منا حين يمرض يبحث عن الدواء في المشافي، ولكن لا ينظر إلى السبب النفسي الذي له دور كبير باعتراف الأطباء، في "خلق" الأمراض. وفي السفر لا تتغير عاداتنا، ولا يذهب معظمنا إلى المتاحف أو الحدائق العامة، بل يلهث في الأسواق حاملاً الأكياس، لا لشيء سوى لتكديسها في الخزائن. ومن المضحك أن الإنسان العربي حين يكون في الخارج يبحث عن الصحف الصادرة عن بلده لمعرفة الأخبار! لماذا السفر إذن وخسارة المال؟ يتجمعون مع بعضهم بعضا في المقاهي، ولا يؤمنون بأهمية الانفراد مع الذات لشيء من الراحة، لماذا السفر إذن؟
مستشفياتنا ملأى بالمرضى، وبنوكنا ملأى بالمال، وشوارعنا ملأى بالسيارات الفارهة... ولكن أرواحنا فارغة من القناعة... ومن الابتسامة.