إن الدعوات التي تطلق، مرة بعد أخرى، نحو ضرورة استيعاب مؤسساتنا الدستورية (الاتحادية والمحلية) لمزيد من الأجيال الشابة المؤهلة للعمل في كافة المجالات، ترفع من معنويات الناقمين على الوضع الراهن والذين يحملون فئة من المسؤولين وزر هذا التقصير واللامبالاة والأنانية. كما أن الزيارات التفقدية التي يقوم بها الفريق أول سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، والفريق أول سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم ولي عهد دبي وزير الدفاع، إلى الدوائر الحكومية والمنتديات المتخصصة، هي محاولات عقلانية لتفجير الطاقات المبدعة في كل موطن وتوجيهها علمياً من أجل توفير حياة أفضل وتقدم مطرد للوطن والمواطن. فضلاً عن أن هذا الاهتمام يمثل قوة ضاغطة تحول دون استفحال قضية توطين الوظائف في الحكومة والقطاع الخاص، وخطوة مهمة نحو تحقيق الإصلاحات في حقل المساواة الاجتماعية. وقد لاحظنا أن التطورات الأخيرة التي طرأت، على صعيد تغيير بيئة العمل في بعض المؤسسات العامة، قد فضحت فئة المتسلطين إزاء الشباب من أبناء الوطن، حفاظاً على كراسيها ولتنصيب أبنائها أو ترقية أتباعها دون حياء، لأن هذا الجيل، في عرف هذه الفئة، لا وزن له ولا قيمة وقدره المحتوم هو البقاء خارج مسرح مرافق الحياة في الدولة.
إن العيوب التي تشوب مؤسساتنا الدستورية وتسيء إلى الموظف المدني في بلادنا، هي التي تشكل سبب فشلها وانصراف الجيل الجديد عنها. ولكن لو ألقينا نظرة خاطفة على أوضاعنا الراهنة واطلعنا على مجمل الآراء التي أبرزتها التطورات الأخيرة، سنخرج بالانطباع الذي يمكن إيجازه في النقاط التالية:
1- من المفارقات العجيبة التي يتميز بها مجتمعنا والتي نراها بحكم الممارسة، هي أن تبادل الحديث أو عرض أي قضية، على القيادة السياسية العليا، المتمثلة في شخص صاحب السمو رئيس الدولة وأخيه صاحب السمو نائب رئيس الدولة، يبدو أسهل للمواطن من اللجوء إلى المسؤولين في المناصب الحكومية العليا (من عامة الشعب). فقد أكدت الأحداث أن أغلبهم ليسوا على مستوى المسؤولية الوطنية، لأنهم غالباً ما يتعالون على فئة من إخوانهم أو أبنائهم المواطنين ويتركونها ضائعة حائرة تبحث عن حلول لمشاكلها الحياتية، لتجد المنقذ في شخص الحاكم، مما يؤكد وضوح رؤية أجدادنا وحكمتهم في اختيارهم (أي الحكام) الذين يتميز، أغلبهم، بقدرات سلوكية وصدر رحب واستماع صبور، كما يلاحظ.
2- يؤلمنا أن نستنتج أن المسؤولين في مؤسساتنا الدستورية، يفتقر أغلبهم للمهارات الإدارية أو الرؤية العلمية في أفكارهم وأساليب عملهم، لأنهم لا يتولون الوظائف العامة حسب الاستحقاق والجدارة، وليسوا ذوي صلة وثيقة بالمواطنين. ولأنهم يستمدون قوتهم من شخصية رئيسهم في العمل أكثر مما يستقونها من أعمالهم، فإن عدم التوفيق بين هذين الاتجاهين يوجد فراقاً في علاقتهم بفئات المجتمع، التي ترى أنهم (أي المسؤولين) يوجهون كل عنايتهم نحو إرضاء شريحة معينة من المجتمع التي تشاطرهم المصالح والأهواء، لا لخدمة المصلحة العامة، وهذا واقع يعرفه كل مواطن.
3- تحاول فئة أخرى من المسؤولين ومرءوسيهم، كي تفرض نفسها على غيرها بصورة دائمة، حجب الرؤية عما يجري داخل بعض الوزارات والدوائر الحكومية، التي تحولت إلى ميدان سباق للمصالح الخاصة، حيث ضاعت فكرة المصلحة العامة وغاب مفهوم تلك المؤسسات التي قامت لخدمة المواطنين والسهر على راحتهم. ولكن الروح الجديدة، التي تجلت أخيراً في الزيارات الميدانية المتعاقبة التي تقوم بها بعض القيادات السياسية، ساهمت في اختراق هذا الحاجز لتجبر كل وسائل الإعلام، راضية كانت أم مكرهة، على فتح ملف تلك المؤسسات وفضح أو إعلان ما يجري فيها.
4- إن الذي جعل الخريج المواطن ينبذ الوظيفة، هو الإذلال والمقالب التي يتعرض لها على أيدي بعض العناصر المتواطئة مع بعض المسؤولين، بمختلف المرافق العامة والخاصة، لأن الانطباع السائد لديهم (أي المسؤولين) هو أن لدى الخريج طمعاً كامناً في وظائفهم، وبالتالي يصبح تهميشه أو "تطفيشه" خياراً مشروعاً للحفاظ على كراسيهم.
5- وصل الأمر بفئة من المدعين والمتكالبين على الكراسي، في مؤسسات حكومية وشبه حكومية، إلى التنصل من تعيين مواطنين صالحين، وذلك بحجج سخيفة كـ(عدم وجود شواغر). وفي حادثة أخرى، ليست فريدة، عمد أحد المسؤولين إلى تهديد أحد مرءوسيه، من الأجيال الشابة، باستبداله بـ(هندي) في حالة إبداء أي رأي حول سير العمل أو تطويره، مما جعله (أي المرءوس) يقدم استقالته، محافظة على صفاء شخصيته الإنسانية وكرامته، لينضم إلى ركب زملائه العاطلين عن العمل من الجيل الحاضر.
6- بات المواطن المتعلم يعيش أزمة حقيقية، هذه الأيام، حيث إنه إذا ما تم ضمانه أو تزكيته للوظيفة من جهات عليا، توهم المسؤول أنه قادم لانتزاع منصبه، وإن تقدم للوظيفة بالطريقة التقليدية، منع من دخول الوزارة (أو الإدارة)، بحجة عدم وجود شواغر، أو أن المسؤول مشغول أو غير موجود، مما ولد لديه نقمة