إن أحد أكثر أوجه الحرب على العراق غرابة, تأكيدات الرئيس بوش المستمرة, على ما يقوله له جنرالاته وقادته الحربيون, عن أن لديهم ما يكفي من القوات هناك! والأكثر غرابة أن يصدق هو ما يقوله الجنرالات عن تلك الكفاية النظرية, دون أن يتطابق المعنى مع الواقع العملي الملموس في الميدان الحربي. وقد شرح مقال نشر بصحيفة "بالتيمور صن" الصادرة يوم أول من أمس, الأسباب التي تفسر هذا التناقض. فقد حكى المقال المذكور, قصة الجنرال جون ريجز - القائد السابق بالجيش الأميركي- الذي كان قد واجه وزير الدفاع, دونالد رامسفيلد, بحقيقة استنزاف الجيش في كل من أفغانستان والعراق, فأرغم إثر ذلك على إحالته إلى المعاش, بعد خفض رتبته العسكرية. والمعلوم أن إجراءً كهذا, لا يحدث عادة إلا حين يأتي الجندي أو القائد فعلاً مشيناً ومضراً بسمعة المؤسسة العسكرية.
وعلى أية حال, فإن الحقيقة التي لا مراء فيها, أنه لا توجد قوات أميركية كافية في العراق. وللغرابة والمفارقة, فإن لدينا عدداً كبيراً من القوات هناك! كيف يستقيم هذا, وكيف تحل هذه المفارقة؟ بهذه المناسبة يذكر أن تقريراً صدر عن مكتب الكونجرس للميزانيات, في شهر سبتمبر من عام 2003, خلص إلى ضرورة البدء بالإسراع في تقليص عدد القوات الموجودة في العراق, بحلول ربيع العام الماضي 2004. وأردف التقرير مبرراً تلك التوصية بوصفها بأنها ضرورية "إن كان للجيش الأميركي أن يحافظ على مستوى تدريبه واستعداده القتالي, إلى جانب الحد من ظاهرة الفصل بين أفراد العائلة, وتقليل النشر غير الطوعي للقوات, والمحافظة على جودة النوعية القتالية للجنود".
دعوني أصوغ الآن تلك التوصية في لغة صريحة مباشرة, ومفهومة في السياق العسكري. فالفكرة هي الوعد الضمني المقدم لكافة الجنود المنضوين لمؤسستنا العسكرية طوعاً وإرادة, والذين خدموا وطنهم في ظروف الحرب والخطر الأمني عليها, بمواصلة حياتهم العادية واستئنافها. ويعني هذا على الصعيد العملي, أن يكون للجنود المتفرغين في الجيش, الحق في قضاء أوقات أطول في الوطن, حتى يكونوا على صلة بعوائلهم وتربية أطفالهم في حضورهم وتحت إشرافهم. أما القوات الاحتياطية, فيتوقع أن تتباعد مدد وفترات استدعائها لأداء الخدمة, على أن تقصر المدة التي يقضونها خارج الحدود, كي يواصلوا أداء مهنهم ووظائفهم المدنية التي يعملون فيها. وللوفاء بذلك الوعد, فقد أدرك الجيش أن عليه اتباع قواعد عسكرية معينة, منها عدم نشر ما يزيد على ثلث الجنود المتفرغين في مهمات عسكرية خارج الحدود, عدا في الحالات الطارئة والاستثنائية. يذكر أن تحليلات وتوصيات مكتب الميزانيات التابع للكونجرس, كان قد بني على هذه القواعد.
بيد أن الذي فعلته إدارة بوش, أنها قذفت بتلك القواعد, وضربت بها عرض الحائط, لكونها غير مستعدة بعد, لبلورة استراتيجية واضحة للخروج من العراق, ولا للاعتراف بأن مواصلة البقاء هناك, تتطلب توفير قوة عسكرية أكبر من الموجودة حالياً. نتيجة لذلك, فإن أفراد القوات النظامية يقضون أكثر من ثلث المدة المقررة لهم خارج الحدود الآن, في حين يلحق الأذى والدمار بالوظائف المدنية التي تعمل فيها قوات الاحتياط, جراء تواتر وكثرة الاستدعاءات لأداء الخدمة, إلى جانب طول المدة التي يقضونها خارج الحدود. إلى ذلك, فإن هناك عاملين, يزيدان من عبء تواتر نشر القوات لفترات أطول خارج الحدود. أول هذين العاملين, حدة النزاع والمواجهة العسكرية. ففي مجلة "سليت" الإلكترونية, خلص كل من فيليب كارتر وأوين ويست, إلى أن تقديرات حدة وشراسة القتال الذي خاضته قوات المشاة الأميركية الموجودة في العراق في عام 2004, يكاد يصل إلى درجة حدة وشراسة القتال الذي خاضته القوات نفسها في حرب فيتنام عام 1966. يذكر أن الكاتبين المذكورين قد اهتما بمقارنة ودراسة عدد ضحايا وقتلى الحرب على العراق, ليقيما عليه دراستهما حول مدى تدهور أو تحسن الخدمات الطبية العسكرية المقدمة للجنود, مع العلم بأن هذا الفرع من فروع الطب, هو المعني بزيادة فرص الجنود الذين يتعرضون لإصابات بالغة, في الحياة.
أما العامل الثاني الذي يزيد من عبء النشر الخارجي للجنود, فيتمثل في تقليص الإدارة لحجم الدعم اللازم لهم. فمن سيارات "همفي" إلى تنصل الإدارة من الالتزام بالدفع طويل المدى للجنود المصابين بالعاهات المستديمة, يدير المسؤولون ظهورهم لأولئك الجنود الذين قدموا حياتهم وأرواحهم فداءً للوطن وخدمته خارج الحدود. وبما أن هذا هو واقع الحال, فإن من الطبيعي أن يتقلص حجم المتطوعين للالتحاق بالخدمة العسكرية. وفي الآونة الأخيرة, كثرت التقارير التي تتحدث عن مصاعب التجنيد للقوات المسلحة الأميركية. وبالفعل أخفقت نداءات وحملات التجنيد, عن تحقيق أهدافها المرجوة بدرجة كبيرة جداً خلال الأشهر القليلة الماضية. لكن وعلى رغم جدية هذه المشكلة في الوقت الراهن, إلا أن المرجح أن تظل مشكلة مؤقتة فحسب. ويتوقف تجاوزها على متى وكيف سننسحب من العراق. فما أن يحدث ذلك, حتى يتوقع ألا تكون هناك صعوب