كما أظهرت ردود الفعل الناشئة عن تقرير مجلة "نيوزويك" عن تدنيس المصحف الشريف, فإن العولمة ليست نعمة دائماً كما تظن الولايات المتحدة الأميركية. فمثلما تغمر العولمة مختلف أرجاء العالم ببضائعنا ومنتجاتنا, فهي تغمره أيضاً بألفاظنا وتعابيرنا, حتى وإن كانت هذه الأخيرة عديمة القيمة, ومؤلبة للمشاعر وحملات الاحتجاج المعادية للولايات المتحدة. وبما أن منتجات العولمة تتدفق في اتجاهين دائماً, فإن في وسع الدول الأخرى أن تضخ إلينا أكثر منتجاتها وصادراتها عنفاً ودماراً, وفي مقدورها أن تسرب تلك المنتجات إلى داخل التربة الأميركية مجدداً. وكانت العولمة قد بدت في وقت من الأوقات, كما لو كانت تجسيداً للخير والنعمة المطلقة. ونتيجة لتلك الصورة المشرقة للعولمة, فقد سعت بلدان مثل الصين والهند وروسيا إلى الانضمام إلى ركبها, إثر انهيار سور برلين وإعلان نهاية الحرب الباردة. أما هنا داخل الولايات المتحدة الأميركية نفسها, فقد بلغت عائدات سوق الأسهم والأوراق المالية نحو ثلاثة أمثال ما كانت عليه, نتيجة لتدفق الاستثمارات الأجنبية على السوق المالية الأميركية. ومما لا شك فيه أنه وفيما لو كان ممكناً اقتصار العولمة على ظاهرة واحدة فحسب, هي تصدير البضائع, فإن الفائز الأكبر في هذه العملية, سيكون الاقتصاد الأميركي, دون منازع. فوفقاً للدراسات والمسوح الاقتصادية التي أجريت في عام 2004, أكدت دراسات كل من "بيزنيس ويك" و"إنتربراند" أن كوكاكولا تعد المنتج الأكثر رواجاً على المستوى العالمي كله, تليه منتجات شركة مايكروسوفت, ثم آي.بي.إم وجي.إيه. كما تؤكد أبحاث ودراسات السوق, أن العشر سلع الأكثر رواجاً ومبيعاً على المستوى العالمي, إضافة إلى 58 من بين 100 سلعة عالمية, هي أميركية الصنع والمنشأ. وتعود مثل هذه المنتجات على حملة الأسهم الأميركيين بتريليونات الدولارات سنوياً.
بيد أن هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001, فتحت عيوننا على حقيقة وعلمتنا درساً لم نكن نراه, مفاده أن العولمة لا تكتفي بتصدير البضائع والمنتجات الخيرة وحدها. ذلك أنه في وسع العنف المصدّر, أن يتخطى هو الآخر, حدود الدول والقارات كذلك. وكما نعلم فإن تنظيم القاعدة قد كان فيما مضى على الأقل, منظمة دولية متعددة الجنسيات, تعمل على استغلال التكنولوجيا الحديثة في ترويجها للإرهاب, وليس الرأسمال أو العائدات الاقتصادية للتجارة الدولية. كما أظهر تقرير صادر عن "مجلس العلاقات الخارجية" العام الماضي, أن دولة عربية أخرى, دشنت تنظيماً شبيهاً, يعمل بالوسائل نفسها تقريباً. كما كشف التقرير نفسه, عن ضخامة حجم الأموال الموجهة لهذا النشاط, تحت مسميات دعم مؤسسات العمل الخيري, المنتشرة على نطاق العالم. وتقدر الأموال المرصودة لهذا النشاط, بنحو 48 مليار دولار سنوياً.
ومثلما تتدفق السلع والمنتجات عبر حدود الدول, كذلك تفعل السياسة ومنتجاتها وأدوات التعبير عنها. فعلى سبيل المثال, يمكن أن تعد كل من إدارتي بيل كلينتون وبوش, في مقدمة الإدارات الأميركية, التي أولت اهتماماً كبيراً بأمر نشر الديمقراطية على النمط الأميركي, خارج حدود الولايات المتحدة. ويصدق هذا, على بعض أنحاء العالم ودوله على أقل تقدير. ولكن حانت اللحظة التي بدأت تسعى فيها الدول الأخرى, إلى تصدير أفكارها ومنتجاتها السياسية أيضاً. فمن جانبه وعقب توسعة عضويته لتشمل 25 دولة الآن, عمد الاتحاد الأوروبي, إلى التبني الكامل لمعاهدة "كيوتو" الخاصة بالتغير المناخي وخطر التدفئة الشاملة, إلى جانب تبنيه لمعاهدة محكمة الجزاء الدولية, باعتبارهما في مقدمة أهداف سياساته الخارجية. هذا وليس خافياً أن التبني الكامل لهاتين المعاهدتين من قبل الاتحاد الأوروبي, يمارس ضغطاً دولياً على الولايات المتحدة الأميركية, التي باتت تواجه حرجاً في موقفها الرافض لهما. ولواشنطن سببان رئيسيان يدفعانها إلى رفض المعاهدتين المذكورتين, لكون المعاهدة الأولى تؤثر سلباً على قسم كبير من الصناعة الأميركية, في حين تعرض المعاهدة الثانية, سيادة الولايات المتحدة ومصير مواطنيها, لقرارات وأحكام قضاة أجانب, ربما تحركهم نوازع ودوافع سياسية معادية لأميركا.
وبين هذا وذاك, فإن للسيد فنسنت فوكس, الرئيس المكسيكي, نموذجه الخاص بالعولمة. ويتلخص ذلك النموذج في سعيه لإزالة الحدود الفاصلة بين بلاده وأميركا. والسبب وراء هذه الفكرة هو قناعة السيد فوكس, بأن في هجرة مواطني بلاده نحو الشمال, ما يخفف وطأة ضغوط شبكة الضمان الاجتماعي على المواطنين في المكسيك. ويستفيد السيد فوكس من حقيقة التقارب السكاني الجاري الآن بين مواطني بلاده وأميركا. بل إن لدى فوكس فكرة مثيرة للتأمل والإعجاب: فهو يتساءل بجدية عن السبب الذي يجعل العولمة قاصرة على عبور السلع والمنتجات وحدها للحدود, في حين يحرم منها البشر, وتوضع أمامهم الحواجز لتحول دون وصولهم إلى حيث يشاءون؟ وغير نظرية السيد فوكس هذه, فإن هناك أشكالاً وأنماطاً أخرى من العولمة, تنذر الولايات المتحدة الأميركية