قلنا في المقال الماضي إن قافلة الديمقراطية قد انطلقت بالفعل في المنطقة العربية، وفي الأسبوع الماضي حصلت المرأة الكويتية على حقوقها السياسية بشكل نهائي، وبعد تأخر طويل ومطالبات، ظن كثيرون أنها لن تؤتي أكلها قريباً. ومثل هذا الإنجاز الكويتي من شأنه أن يزيد من زخم مطالبات أخرى في المنطقة سواء فيما يخص حقوق المرأة، أو فيما يخص توسيع هامش المشاركة وحقوق الإنسان بصفة عامة. ولكن مع هذا الواقع الجديد الذي أصبحت فيه الديمقراطية والإصلاح هما الشغل الشاغل للجميع، ينبغي أن نكون أيضاً واقعيين، في توصيفنا لما يجري، حتى لا ننساق وراء تعميمات، وأحكام بالجملة، ربما لم يحنْ وقتها بعد، وحتى لا نحمِّل الأمور أكثر مما تحتمل.
هذا التحرك العربي نحو الديمقراطية، يجب ألا يخدعنا، فرغم أنه بطيء بعض الشيء، إلا أنه ليس مدروساً كما يبدو، وفي الواقع ليس جذرياً أيضاً، ولا هو "ثوري ليبرالي" كذلك. فكل ما حدث حتى الآن، هو تغييرات فوقية شهدتها بعض العواصم العربية، بقرارات حكومية، وليس نتيجة تراكم طبيعي للرغبة الشعبية، خاصة أن هذه الأخيرة هي المُعوَّل عليه عادة لترسيخ، وصيانة، أية مكاسب ديمقراطية، على اعتبار أنها هي المستفيد الأول والأخير منها. نعم الناس يرغبون في المشاركة، وفي الديمقراطية، وفي الإصلاح، ولكن هل يلحُّون في السعي من أجل ترجمة رغبتهم هذه إلى واقع ملموس؟ وهل يدركون جميع أبعادها والتزاماتها؟ وبمعنى آخر، حين أقدمت الحكومات على هذا الخيار الصعب، وقررت إجراء تغييرات، على الحالة السياسية المحتقنة القائمة منذ زمن، جاء الأمر أشبه بتدخل طبي عاجل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه نتيجة تفشي "فيروس" الديمقراطية ـ وهو هنا الضغط الخارجي من الولايات المتحدة الأميركية ـ وارتفاع درجة حرارة المنطقة إلى ما يشبه الحمى. فكانت وصفة المسكنات الحكومية هذه. والسؤال هنا هو: هل تزول الحاجة إلى المسكنات بزوال الأعراض والحمى؟ أو ماذا إذا تغيرت أولويات الولايات المتحدة الأميركية التي تقف وراء الضغط الخارجي بدورها، هل ستتراجع الحكومات العربية ساعتئذ عن الإصلاحات التي أعلنتها؟
المطلوب أن تجد مفاهيم المشاركة الشعبية جذوراً قوية في المجتمع، من خلال ترويج مفهوم الديمقراطية، وجعل قطاعات واسعة من المواطنين، على بصيرة بفوائدها وأبعادها، لأن الترويج للديمقراطية وتبصير الناس بها لا يمكن أن يكون فجائياً، أو على حين غرة، بل لابد أن يقوم على أسس مدروسة وعلمية ومنظمة تبدأ من تدريس أساسيات الديمقراطية في المدارس والجامعات، وتستفيد من إمكانات الانتشار الكثيرة الأخرى كوسائل الإعلام، والمؤسسات الثقافية والمؤسسة الدينية، التي تستقطب جمهورا واسعاً يمكن نشر الوعي الديمقراطي في صفوفه. وعندما يقوم ما يمكن تسميته بـ"البنية التحتية" الضرورية للديمقراطية، يكون المشروع السياسي المرتبط بها بعد ذلك قادراً على الانطلاق قوياً ومن منطلقات ذاتية. ومطلوب أيضاً عدم الوقوع في أخطاء التعميم، التي لا يحسن الأميركيون شيئاً كما يحسنونها. فما هو مطلوب في هذه الدولة العربية، ليس بالضرورة مطلوباً في تلك. وسلَّم الأولويات لا يمكن أن يكون موحداً. فلكل بلد عربي أولوياته، فقيادة المرأة للسيارات أو عدم قيادتها مثلاً، ليس من المواضيع المطروحة في دولة الإمارات العربية المتحدة، لأنه موضوع محسوم منذ زمن. كما أنه ليس من قبيل الأولوية في دولة عربية أخرى، إجراء انتخابات برلمانية، وهكذا، فلكل بلد عربي أولوياته، وخصوصياته، وضروراته، على طريق الإصلاح، وما ينبغي أن يكون مشتركاً هو فقط، "عدوى الديمقراطية" كتوجه عام، وكروح للحركة الشاملة التي تعج بها المنطقة. وقديما قيل... في الحركة بركة.