في مقالين سابقين تحدثت عن أهمية التفكير والمفكرين في مجتمعنا، وعرجنا على التحديات التي تواجهنا. ولو تأملنا في مجريات الأحداث في العالم اليوم لرأينا أنها انعكاس تطبيقي لفكر مساند لهذه التوجهات والأحداث. فما يجري اليوم في السياسة العالمية من أحداث هو رأس الجبل كما يقال لتأملات نضجت على نار هادئة في مطبخ الفكر، وتفوح بين الفترة والأخرى روائحها زكية كانت أم خبيثة. فللسياسة الأميركية مفكرون لا نراهم أو قد لا نسمع عنهم الكثير, وما ينفذ من أفكارهم من قبل الحكومة الأميركية إنما هو الجانب البسيط من اللعبة، وفي المقابل الأفكار الثورية الإسلامية التي يراها العالم اليوم إنما هي صورة واضحة لفكر خفي سرى في عروق الكثير من المسلمين عبر أجيال من الزمن، حتى وجد على كوكب الأرض من تبناه وحققه. لذلك نسمع بين الفترة والأخرى من يقول بوجوب التفريق بين فكر القاعدة وما قام به أنصارها, لأننا لو جمعنا بين الأمرين لرأينا أن للقاعدة ملايين البشر. ولو فرقنا بين الفكر والتنفيذ لعلمنا أن ما تم تنفيذه يؤمن به قليل من أنصارها، وهذا في تصوري فيه تناقض وخلط ليس بالسهل.
فمن تبنى فكرة معينة تقوم على تكفير الكرة الأرضية سيتحول فكره شئنا أم أبينا إلى تنفيذ قد يكون أخطر من الفكرة نفسها, وبالذات إذا رافق هذا الفكر الانزواء والانسحاب من المجتمع، وهذا ما جرى تحديدا لفكرة التشدد الإسلامي عندما تم تبني فكرة معينة شعارها "إن الحكم إلا لله", وهو شعار صحيح لا يستطيع مسلم رفضه لأنه نص في القرآن الكريم، لكن تفسيره هو ما قاد القوم إلى شيء من الانحراف, وتأكد هذا لانحراف عندما انسحب أنصاره باختيارهم أو بالجبر عن المجتمع كي يعيشوا في كهوفهم الخاصة. عندها بدأوا يجمعون القرائن والأدلة حتى وصلوا خطأ إلى ما وصلوا إليه، وتحول الأمر لتنفيذ سيئ لسوء فهم قادتهم إليه قلة العلم والانطواء عن المجتمع. وهذان البعدان هما مفتاح التعامل مع الأفكار التطرفية. البعدان هما, نشر العلم، ودمج أصحاب الأفكار في قضايا المجتمع حتى لا يحسوا في لحظة من اللحظات بأنهم منبوذون ومن ثم تكبر في عقولهم عملية رفض المجتمع لهم فتقودهم إلى التخلي عن المجتمع والعمل على بناء مجتمعهم الخاص بهم والذي حسب تصورهم لن يقوم إلا على أنقاض المجتمع الحالي.
عندما نتكلم عن مبدأ نشر العلم فإن بعض الدول ارتكبت خطأ فادحا باستقدامها واستخدامها الفكر المضاد للتعامل مع الفكر المتشدد. فمثلا في مقابل الحركة السلفية تتبنى بعض الدول الحركة الليبرالية اعتقادا منها أن انشغال الحركتين بعضهما ببعض وقاية للدولة. وفي حقيقة الأمر أن هذا الأسلوب أدى إلى تطرف الحركتين وخروجهما عن خطهما المتعارف عليه, بل إن بعض أفراد الحركتين أنشأوا حركات مستقلة عن الحركات الأم مما زاد الطين بلة. عندما نقول بنشر العلم نقصد به احترام العقلاء من علماء هاتين الحركتين على سبيل المثال لا الحصر، وإتاحة الفرصة لهم للقيام بدورهم لجلب أكبر عدد ممكن من أنصار الفكرتين لعالم البناء لا الهدم، ندفعهم من جديد للعودة إلى أوطانهم عناصر مخلصة تشارك المجتمع همومه وانتصاراته، قبل أن يجرفهم الطوفان فيتحولوا معامل هدم.
والطوفان هنا قد لا يكون من بنات أفكارهم, فهناك أجهزة دولية تتعامل مع هذه الأفكار المنحرفة في بعض الأوقات, وتجعل الشباب أدوات لتنفيذ مخططات هي في حقيقة الأمر أكبر من أن يتصوروها. فهم يعتقدون أنهم حققوا انتصارات لقضيتهم وهم في حقيقة الأمر يصبحون أفرادا ممثلين في المسرح الدولي ينفذون نصوصا تمت كتابتها وإخراجها لتحقيق مصالح غيرهم. وفي الختام نقول لابد من نشر العلم ودمج أصحاب الأفكار في مجتمعاته لأن الانسحاب له عواقب مجهولة.