منذ وقت ليس بالقريب, ظلت سوريا مثار جدل وخلاف في الرأي بين القادة وصناع السياسات والقرار في واشنطن. وفي الوقت الراهن, فقد تضافرت عدة عوامل من بينها - ضعف الاقتصاد الوطني, التباين الديموغرافي, الضغوط العالمية الممارسة عليها, إلى جانب خطورة موقعها الجغرافي- وغيرها من العوامل التي يتوقع لها أن تحد من النفوذ الاستراتيجي الذي تتمتع به سوريا في منطقة الشرق الأوسط. ومع ذلك, فإن هذه العوامل مجتمعة, لن تقلل من حقيقة أنها لا تزال لاعباً أساسياً في المنطقة, سواء بسبب رصيدها الكبير من هذا النفوذ الذي راكمته منذ أيام قائدها الراحل حافظ الأسد, أم في ظل قيادة نجله الحالي الرئيس بشار الأسد. والحقيقة التي لا مراء فيها هي أن لسوريا مكانة استراتيجية مهمة في المنطقة الشرق أوسطية, وأن هذه المكانة قد تعززت قبل فترة طويلة سابقة لاعتزام الولايات المتحدة تبني التزامات طويلة الأمد في الجارة العراق.
وتستمد دمشق هذه المكانة، من خلال تحالفاتها الإقليمية والمحلية, خاصة في لبنان, عبر تحالفها مع حزب الله, وهي تحالفات ترتبط باحتلالها طويل الأمد للأراضي اللبنانية, خلال ما يزيد على العشرين عاماً. ولما كانت نظرة دمشق إلى إسرائيل لم تتغير يوماً, باعتبار أن الأخيرة دولة معتدية مهيمنة, فقد كان طبيعياً أن تبقى على تمسكها بشرط الانسحاب الإسرائيلي الكامل من هضبة الجولان المحتلة, باعتباره شرطاً لازماً ولا تراجع عنه, لإبرام أي صفقة سلام محتملة مع تل أبيب.
لكن ومنذ رحيل الزعيم السوري حافظ الأسد في عام 2000, وما لحق ذلك من انتقال للسلطة إلى نجله بشار الأسد, فقد أعيد فتح الحوار مجدداً حول التأثير الاستراتيجي السوري الإقليمي على المنطقة برمتها, في دوائر صنع السياسات والقرارات في واشنطن. بيد أن التحديات السياسية التي أثارها سلوك سوريا في عدد من القضايا والجبهات الاستراتيجية, جعل من هذا الحوار أكثر إلحاحاً وأهمية من ذي قبل, لا سيما في ظل الظروف السياسية والبيئة الأمنية السائدة في المنطقة مؤخراً. والملاحظ في هذا الحوار, أنه يكشف يوماً بعد الآخر, مدى الصعوبة التي تواجهها واشنطن في بلورة سياسات واضحة ومتفق عليها, إزاء دمشق. ليست واشنطن وحدها هي التي تعاني صعوبة في بلورة سياسات كهذه, بشأن التعامل مع سوريا, بل إن الحيرة ذاتها، تطال دوائر صنع السياسات واتخاذ القرارات في الغرب إجمالاً.
ذاك هو الفراغ الذي يسعى إلى ملئه هذا الكتاب "وراثة سوريا" من خلال محاولته رسم صورة متكاملة عن دمشق ونظامها الحاكم, من رؤية ومنظور مؤلفه فلينت ليفيريت. وتقوم هذه الرؤية على دراسة تأثير العائلة الحاكمة على السياسات السورية, والتركة الاستراتيجية التي آلت من الزعيم الأب الراحل, إلى الزعيم الابن الحاكم حالياً. كما يهتم الكتاب أيضاً بدراسة المأزق الاستراتيجي الذي تواجهه السياسات الخارجية الأميركية إزاء سوريا, وسعي هذه السياسات إلى تحقيق أهدافها عبر "الاشتباك المشروط" مع سوريا, واتباع سياسة العصا والجزرة معها في آن واحد. كما يلحظ المؤلف في دراسته وتحليله لاتجاهات السياسات الأميركية حيال سوريا, أن هذه الاتجاهات تجنح لأن تتخذ طابعاً استراتيجياً مستقلاً عن عملية سلام الشرق الأوسط. وهذا ما يفسره الكاتب بأنه يعد علامة مفارقة تاريخية, في السياسات الخارجية الأميركية الشرق أوسطية.
في الشق الأول من التحليل, وهو الشق الخاص بدراسة إعادة ترتيب البيت السوري من الداخل, أبدى المؤلف اهتماماً كبيراً بتفاصيل وملابسات صعود الرئيس بشار الأسد إلى سدة الحكم, و"وراثته" للنظام السوري الحاكم, بكل ما يعني ذلك الصعود من تركة وأعباء ومسؤوليات ومعان. وعلى فرضية اللغز الذي لا يزال يحيط بشخصية بشار الأسد في أذهان الكثير من المحللين والسياسيين الغربيين, يعمد المؤلف إلى فض هذا الغموض, ودراسة شخصية الرئيس السوري من مختلف جوانبها العائلية والسياسية والتعليمية, فضلاً عن التفصيل في دراسة وتحليل طبيعة النظام الذي ورثه بشار, مقترناً بالصعوبات والعراقيل والتعقيدات البيروقراطية والسياسية التي تحيط بوعد التحول والإصلاح السياسي الذي قدمه بشار.
كما أولى الكتاب اهتماماً بدراسة وضعية سوريا في البيئة الأمنية الخاصة بمنطقة الشرق الأوسط, وما ينسب إليها من علاقة بما يسمى بـ"إرهاب الدولة" وما يثار من شكوك حول برامج نووية جارية فيها. ضمن ذلك يدرس المؤلف علاقة سوريا وما تتمتع به من حق النقض "الفيتو" في عدد من القضايا الجوهرية الإقليمية الكبرى، تمتد من صفقة السلام مع إسرائيل, وصولاً إلى الوضع الأمني للقوات العسكرية الأميركية الموجودة حالياً في العراق. وما التحليل في جوانبه ومستوياته المختلفة, سوى مقدمة منطقية يحاول أن ينفذ المؤلف عبرها، إلى اقتراح أفضل المداخل والسياسات التي ينبغي على واشنطن اتخاذها في التعامل مع النظام السوري.
وهناك من يلمس أهلية كهذه في المؤلف فلينت ليفيريت, إذ عزا إليه جورج تينيت –مدير وكالة المخابرات المركزية الأم