منذ بضع سنوات، قمت باستضافة صحفي شاب من لاتفيا كان قد جاء إلى الولايات المتحدة لتعلم شيء ما عن طرائق وأساليب وسائل الإعلام الأميركية. ونظرا لأنه لم يكن يعرف سوى اللغتين اللاتفية والروسية، ونظرا لصعوبة العثور على من يتحدث اللغة اللاتفية في مدينتي، فإنني اقترحت عليه مقابلة صديق يجيد اللغة الروسية. ولكنني فوجئت به يرد علي قائلا في ضيق واضح: أنا لا أريد أن أقابل أو أتحدث مع أحد من الروس.
وهذا الموقف يبرز الكراهية الثابتة الذي يحملها اللاتفيون وغيرهم من أبناء جمهوريتي البلطيق الأخريين( ليتوانيا واستونيا) لأي شيء له علاقة بالروس، وذلك بعد سنوات من الضم، والاحتلال والمضايقات على أيدي الروس. وعلى الرغم من أن اللاتفيين قد تخلصوا من الحكم الروسي في بدايات التسعينيات، فإن هناك الكثيرين منهم يقولون إن المواطنين الروس الذين استقروا في بلدهم بعد انتهاء الحكم الروسي يتمتعون بمزايا لا يستحقونها. لذلك فإن الرئيس بوش لم يجانبه الصواب، عندما قرر خلال رحلته الأوروبية الأخيرة بمناسبة الاحتفال بالذكرى الستين لانتصار الحلفاء على النازية، مد نطاق زيارته ليشمل زيارة دول البلطيق ليتوانيا ولاتفيا واستونيا، التي أصبحت الآن دولا ديمقراطية, غير عابئ بنوبة الغضب التي لا داعي لها التي انتابت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وما فعله بوش في هذا الصدد يبرز مدى جديته في تشجيع وتعزيز الديمقراطية في مختلف أنحاء العالم. الرئيس الروسي بوتين مستاء مما يسميه" تدخلا" أميركيا في شؤون الجمهوريات المحيطة بروسيا، والتي كانت خاضعة لحكم الاتحاد السوفييتي السابق. والرئيس بوش رد على ذلك قائلا: " إن جميع الأمم التي تحيط بروسيا سوف تستفيد من انتشار القيم الديمقراطية، وهو ما ينطبق على روسيا نفسها أيضا".
وعلى الرغم من السيناريو المعد بعناية لمشاهد الود والحميمية بين بوش وبوتين نهاية الأسبوع الماضي إلا أن هناك غيوما تلوح في أفق العلاقات بين الدولتين في المستقبل القريب. بيد أنه وعلى الرغم من حقيقة أن بوتين يبدو الآن وكأنه يتراجع عن الإصلاحات الديمقراطية؛ وعلى الرغم من أن روسيا لا زالت تمتلك ما يزيد على7000 رأس نووي عامل، فإنها لا تشكل تهديدا يقترب من التهديد الذي كانت تشكله للولايات المتحدة ذات يوم.
التحدي المتنامي الذي يجب أن تركز عليه الولايات المتحدة هو التحدي الصيني، أي على ذلك المارد المنطلق الذي أدى تقدمه الاقتصادي إلى إطلاق موجة جديدة من التجارة والنشاط السياسي والدبلوماسي في مختلف أنحاء العالم. وبعض المسؤولين الأميركيين قلقون من تنامي مماثل يحدث في الإنفاق العسكري الصيني. المنطق يقول إنه من غير المرجح أن تقوم الصين بإطلاق صراع قد يترتب عليه إدانة دولية، وإلغاء لدورة الألعاب الأولمبية في بكين، التي قام الصينيون بحملة قوية من أجل الدعاية والترويج لها. مع ذلك فإن هناك احتمالا لحدوث أخطاء في الحساب، في تايوان مثلا، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى إشعال نار حرب تستدعي تدخل الولايات المتحدة في المنطقة.
على أنه يتعين القول هنا إن القدرات العسكرية الصينية أقل كثيرا من تلك الخاصة بالولايات المتحدة الأميركية. وعلى الرغم من أن النظام الصيني لا يزال شيوعيا، إلا أن اهتماماته الرئيسية حاليا تنصب على بناء الاقتصاد الذي يتطور رغما عنه وفقا لمبادئ اقتصادات السوق.
فعلى سبيل المثال، ومنذ عدة أيام، استمعت إلى محاضرة ممتعة بالصوت والصورة ألقتها مسؤولة إدارية سابقة لصحيفة "جانيت" وهي السيدة "ميتشيل فوستر" التي أمضت العام السابق في الصين كزميلة في المركز الدولي للصحفيين. قالت لنا فوستر وهي بالمناسبة تجيد الصينية، إن أبرز التغييرات التي حدثت في الصين وأكثرها دلالة هي أن الحكومة قد تخلت عن سياسة تمويل أغلبية الصحف والمنافذ الإعلامية. فالتوجه السائد الآن هو أن تلك الصحف والمنافذ الإعلامية يجب أن تنفق على نفسها بنفسها. وهذا هو السبب في أن المديرين التنفيذيين في المؤسسات الإعلامية الصينية أصبحوا- بسبب توجههم الجديد القائم على تحقيق الربح- متعطشين لتعلم تقنيات الإدارة المطبقة في البلدان الأجنبية.
إن ما يشي به ذلك وغيره، هو أن اهتمام العالم يجب ألا ينصب كثيرا على الأيديولوجية الشيوعية المتآكلة في الصين، والتي فشلت في كل مكان آخر في العالم، وإنما يجب أن ينصب بدلا من ذلك على القومية الصينية النشطة التي يبدو أنها تحل شيئا فشيئا محل الأيديولوجية الشيوعية.
والتقدم الاقتصادي الصيني يقلق اليابان وتايوان وأستراليا كما يقلق أيضا الهند التي تمضي هي الأخرى بخطوات متسارعة على طريق النمو الاقتصادي، والتي ترقب تطور الاقتصاد الصيني الذي أصبح يسيطر على سوق السلع المنخفضة التكلفة، بل وقام أيضا بشن غزوات غير عادية داخل الأسواق الأميركية ذاتها.
وعلى الرغم أن الولايات المتحدة- من الناحية الجغرافية- ليست قوة آسيوية، إلا إنها ظلت طويلا- ويجب أن تظل- لاعبا رئيسيا في تلك المنطقة. ولذلك فإنها يجب أن تحذر