إن نظرة المسلمين لأنفسهم وللعالم وكيف يتخذون القرارات المصيرية وكيف يمارسون حياتهم وما هي فنونهم وطقوسهم وكرنفالاتهم، كلها يتم تحديدها بتأثير الدعاية الإسلامية المسيطرة إعلاماً وتعليماً. وبتأثير الصوت الديني يصطدم المسلمون بمشكلات مستعصية على الحل. فالمسلمون يعترفون شعوباً وحكومات بأن لديهم شيئاً ما خاطئاً وخطرا وفاسدا، أدى إلى انحطاطهم وتخلفهم لحد الازدراء والتحقير. وقد شاهد المسلمون التفوق والتقدم والعلم والارتقاء والحريات وحقوق الإنسان في الغرب، وعاينوها ولامسوها وعاشوا نعيمها في بلاد المسلمين باستيراد منتج تلك البلاد المتفوقة، وأيضاً اكتووا بنار تلك البلاد العسكري. عرف المسلمون أن الحريات وحقوق الإنسان المواطن الفرد تنجز علماً نافعاً وتؤدي إلى رفعة الأمم وقوتها. إذن عرفنا السبب وأصبح واضحاً, ولا يبقى سوى أن نفعل فعلهم كما فعلت ألمانيا وإيطاليا واليابان وتركيا وكوريا... إلخ، ورغم دخول هذه الدول الحداثة الحقوقية متأخرة فإنها بلغت ما أرادت.
هنا يقف المسلم مع ثقافته وهي تتضارب حتماً مع الحداثة الحقوقية، كحق النقد لأي شأن كان وحق الاعتقاد من عدمه وحق المرأة بالمساواة القانونية في الأهلية للإنسانية الكاملة وكلها، متضاربة مع شريعتنا. ومع هذين المدركين لا يتم الربط العلمي بين الأسباب لكلا المنطلقين وما حققه من نتائج، لأنه مع التناقض يتوقف العقل عن اتخاذ القرار ويفسح المجال للوجدان لاتخاذ هذا القرار ليعود للتفكير، ولكن بشروط الوجدان، وبشروط الإيمان، فيبدأ البحث عن إنجاز خاص يرضي الحس الديني والذائقة العربية الإسلامية، بالمزج بين ما لا يمتزج، بين الإلهي والبشري، بين القديم والمحدث.
ربما أيضاً بالإصرار على مواطنة مبادئ الحريات، أي أنها إنتاج وطني عربي إسلامي، أو يجب أن تكون كذلك، وغير ذلك خيانة وطنية ودينية، فأي إصلاح غير خائن يجب أن نتوافق نحن عليه من الداخل بأيدينا لا بأيدي العم سام، حتى لا يأتينا مستورداً أو مفروضاً علينا، وهو ما طالب به صاحب هذا القلم وحذر منذ سنوات في مؤلفاته المنشورة، فكان نصيبه التكفير والتخوين والمحاكمة. وها هم يعودون لما قلنا، لكنهم يختصرون الطريق عبر "حواري" فرعية أصبحت متاهة. وكله لا سبب له سوى فرض ثقافتنا العزيزة في عملية الإصلاح، ولا تفهم كيف يُصلح ما كان السبب في التخلف والفساد؟
وبهذا الشأن تقدم دفاعيات عن ثقافتنا تثير الرثاء، ويكررون الأقوال المأثورة التي لا يزيد عددها على عدد أصابع اليد الواحدة، وهي التي اكتشفوا فيها الحريات وحقوق الإنسان في المأثور، عندما قال العربي لأبي بكر لو أخطأت لقوّمناك بسيوفنا، فقوّمهم بسيفه. أو ما قال عمر: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟ ثم استـُعبدتْ شعوب بكاملها, أو ما ورد عن مسؤوليته في يثرب لو عثرت دابة في العراق... فمات مقتولا، دون واقع ما حدث بالفعل وليس بالقول حتى تنجح صياغة المشروع، أو دون الالتفات للقوانين الحقوقية التمييزية بين البشر في كتب الفقه المعتمدة.
اليوم يقومون بعمل إنتاج مشترك ومشروع مدمج، فيضيفون للدين من الحداثة ما لم يكن فيه، فيحدثوننا عن صندوق الاقتراع وعن محاسبة ولي الأمر وعزله، وعن المجلس التشريعي، وكل شؤون لم يعرفها أي دين قبل أن يصنعها البشر بدمائهم وعظامهم عبر التاريخ، لتتفتح اليوم وما كان لها أن تتفتح قبل ذلك. يضيفون للدين كلاماً لا يعرفه, كالمساواة، بينما الفقه الإسلامي يقسم الناس منازل كما قسمهم الخليفة عمر في توزيع الفيء. يلبسون الدين مفاهيم معاصرة لم يكن لأي دين أن يعرفها، فيخلطون خلطاً هجيناً لا يلتئم، لأنه من المستحيل مزج المنتج البشري بالمنتج الإلهي. وتستغرقنا مهمة عبثية طوال الوقت لإثبات سبق الإسلام إلى معرفة هذه الحقوق الإنسانية الرفيعة، حتى لا نقول إن ذلك غزواً أجنبياً وهو مشكلتنا مع الحداثة. فالغزو الأجنبي يدمر الأخلاق والقيم وخاصة الشرف. نحن نتصور أنه من لزوم ما يلزم الحداثة قبول قيم يفرزها مجتمعنا، فنحتفظ من تراثنا بما لن يلتقي أبداً مع الحداثة عند محاولة الدمج ولا يشكل مجتمعاً حراً. نحن لا نريد أن نأخذ المبادئ الحقوقية الحداثية كما هي في بلادها، كما لو كانت ستنتقل بعادات وتقاليد تلك الشعوب. لذلك لا نأخذ من الحقوق إلا ما اتفق مع الشرع ومنع غيرها من العبور، رغم أن المقبول والمستبعد كلاهما من ضرورات الحداثة الحقوقية لتثمر إنجازها الحضاري.