والجواب نعم ولا. فأما بيولوجياً فكانت جيناته كردية، وأما ثقافياً فكان يحمل همّ الحضارة الإسلامية. وفي عصر صلاح الدين كان الجو دينيا ولم يكن قومياً، ولكن الأكراد يريدون قلب محاور الزمن ليسقطوا على الزمان مفاهيم من خارج إطاره، كما يفعل الإسلاميون مع مفهوم الديمقراطية، ويعيدون بعث الحياة في مرض ودعته أوروبا كما ودعت الزهري منذ القرن التاسع عشر. ولا يختلف البعثيون الأتراك والعرب والأكراد عن بعضهم بعضاً في شيء، وهو مرض وبيل حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم فقال دعوها إنها منتنة. فأما البعثيون الأتراك فذبحوا الأرمن، وأما البعثيون العرب فذبحوا الأكراد، وبقي على البعثيين الأكراد أن يذبحوا أحدا؟ ولو صارت الأمور إليهم لذبح الأكراد خصومهم مثل غيرهم حذو القذة بالقذة. وذرية بعضها من بعض ومرض الثقافة واحد. ومشكلة ردود الفعل معروفة في قوانين الميكانيك منذ أيام نيوتن. وأذكر من طفولتي في المنطقة التي نشأت فيها أن الأستاذ العربي كان يلقن الطفل الكردي أن يقول: أنا طفل عربي، والغلام الكردي لا يستوعب هذا التناقض. وفي مناقشاتنا مع الأكراد المحليين كانوا يقولون بدون تردد: أنتم العرب قمتم بأكبر ضحكة علينا واستعمرتمونا باسم الإسلام؟ ولذا كانت معظم أحزابهم ذات توجهات إلحادية، وهو أمر متوقع, كما هو الحال مع جماعات القوميين العرب.
وصلاح الدين يشبه في هذا نابليون، فالثاني كان من كورسيكا، وفي نفيه الأخير إلى جزيرة سانت هيلانة كان أقرب الناس إليه جماعته الكورسيكيون فيتكلمون بلغة لا يفهمها غيرهم.
ولكن نابليون احتفلت به أوروبا عام 2005, على أنه الأب الروحي لها. ومن أنقذ صلاح الدين في خيمته من خناجر الحشاشين كانوا أمراء الأكراد، ولكن صلاح الدين كان يحارب الصليبيين باسم الإسلام، وما كان إبراهيم عراقيا ولا فرعونيا ولا كرديا ولكن مسلما ولم يكن من المشركين. والقومية كانتساب لا يستطيع أحد التخلص منه ولو أراد. والقومية كعقيدة, شوفينية ومرض. ويبدو أن الوباء القومي الذي خلصت منه أوروبا ببحار من الدماء انتقل إلى العرب والأكراد كما ينتقل الضوء بعد انفجار السوبرنوفا، ومن يرى الضوء لا يخطر في باله أن الضوء يأتيه متأخرا في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون. والشعوب التي ينهار عندها الجهاز المناعي تمرض بالقومية والشمولية. وفي القامشلي التي نشأت فيها رأيت من أمراض التشرنق والتشرذم الطائفي والعرقي ما يزكم الأنوف، ولم يكن انفجار القامشلي من فراغ، فالاحتقان في نفوس مريضة يفجر الأوضاع بأشد من عود ثقاب في غابة جافة في صيف ملتهب.
وهذا لا يعني أن الأكراد غير مظلومين، ولكن هذا الظلم واقع على الناس أجمعين، ومن هرب من العالم العربي كانوا كردا وعربا وعجما, فاجتمعوا تحت خيمة واحدة من اللجوء السياسي في مونتريال والسويد وألمانيا, عباد الله إخوانا لا يتعدى أحد على أحد بقبيح من القول أو بطش اليد بالسوء. وفي الحارة التي أنا فيها في مونتريال يجاورني إيطاليون وصينيون وأفارقة. وفي يوم كنت أناقش طبيبا كرديا مرموقا فقلت له: ليس العبرة أن نستبدل صدَّاماً عربياً بصدام تركي كمن يستبدل السل بالإيدز، وفي بعض البلاد العربية توجد أقليات في السلطة، والعبرة ليست في من يحكم بل تحقيق العدل، وهذا المعنى الهائل يغيب عن ذهن الناس. وفي نقاش في "الاتجاه المعاكس" كان الكردي يصيح في وجه التركي أريد أن يحكمني الأكراد ولو سلخت المخابرات الكردية جلدي؟ ولما حاول التركي التعرض لشخصية أوجلان نهض الكردي وقال سأقلع عينيك الاثنتين بأصابعي؟.
واليوم من ينقذ رقبة أوجلان ليس الأكراد بحرب ودماء، بل الجماعة الأوروبية التي ودعت بها أوروبا حكم الإعدام منذ زمن بعيد، واعتبرت أن الجريمة هي نتاج الثقافة والوسط اجتماعي، وفي الحديث عن الرجل الذي قتل مئة كانت نصيحة العالم للمجرم مغادرة قومه فهي أرض سوء، والأرض في الشرق كردية أو عربية أو تركية أرض سوء حتى يأذن الله بتبدل الأحوال.