لم يعد الأمر مقتصرا على نعت بعض الإعلاميين بأنهم مثل لاعبي السيرك, وخاصة عندما يكون المنعوت لا يحتاج إلى تلميع أو شهادة حسن سيرة وسلوك في الحقل الإعلامي.
الحاوي لا زالت أصابعه ملتصقة بالمزمار وأوداجه تنفخ ألحانا نشازا بينما تتحرك الأفعى على ضربات يده في قفصها كفقير هندي في أحد الأزقة الضيقة القريبة من قصر تاج محل. المزمار يفح كالأفعى بينما يحترق قلب الهندي على ضياع المجد. الحاوي كان شديد المراس والقدرة على التشقلب في الهواء واللعب على كل الحبال المشدودة بين المصلحة والنرجسية وتزييف الواقع بينما كانت حبال البهلوان مشدودة على وتر الوطن المباح المتاجرة به, معروضة في فترينات الصحفيين الذين كانت تسطر لهم الشيكات في مخادعهم الفندقية استجداءً لكتابة عمود.
ليت المشكلة أو القضية توقفت عند سفسطة الحديث عن البهلوان والحاوي الشهم! ولكنها انتقلت إلى ما هو أهم وابعد من مجرد الطرح والتنظير عندما انبرى أحدهم وأصر بكل قوة ممكنة على نسف كل نظريات الإعلام محيلا عددا من علماء وأساتذة الإعلام إلى مجرد متلقين سلبيين وأطفال روضة على مقاعد هذا المنظر. فقد أفتى بأن التلفزيون جهاز لا تأثير له على المتلقي, وأنه, أي التلفزيون لا يقوى على الدعاية ولكنه جهاز موجه للترفيه. كان هذا الطرح في مجمله دفاعا عن توجهات إعلامية يجري تسويقها وتسويغها في المنطقة العربية منذ أكثر من عقد, والسؤال المنطقي في هذه الحالة: لماذا تصر وكالة الاستخبارات الأميركية وغيرها من دوائر صنع السياسة والقرارات العسكرية على أن يكون التلفزيون ووسائل إعلامية أخرى أهم أذرع الإخطبوط الناقل والمروج للسياسة الأميركية في المنطقة؟ لماذا يتم اعتماد ميزانيات بملايين الدولارات لتوجيه خطاب للشباب العربي من طنجة إلى صلالة لتغيير صورة الأميركي في ذهنية المتلقي العربي؟ هل الأميركان وهم أساتذة الإعلام وعلماء العلاقات العامة سذج وبسطاء ولا يعرفون أثر الوسيلة والرسالة ويقعون فريسة لمغرض عربي زين لهم أهمية الخطاب ودوره في توجيه الرأي العام العربي؟
حملت كل هذه الأسئلة شاكيا باكيا بعد انتهاء جلسات المؤتمر الأول للإعلام المحلي وطفقت أبحث عن أستاذتي الدكتورة جيهان رشتي وأستاذي الدكتور صالح أبو أصبح وأخي الدكتور محمد شومان. فتحت كتب نظريات الإعلام للدكتورة جيهان والدكتور صالح وحاولت أن أعيد القراءة من جديد. حاولت أن أقرأ بطريقة مختلفة لا باعتباري خبيرا في الإعلام وممارسا قضى جل عمره في بلاطه, ولا محاولا استرجاع وتأكيد معلوماتي, ولكنني, بدأت القراءة من جديد باعتباري طالبا في السنة الأولى في كلية الإعلام, وقرأت بنهم وشوق ولذة غريبة, وتأكد لي أن بين السطور أفكارا وأطروحات لم يتعرف عليها من أراد هدم نظريات الإعلام لإقناعنا بسلامة أطروحاته. هذا الشخص لم يعرف أن العائلة والمدرسة ووسائل الإعلام تقوم بدور مهم في عملية التطبيع والتنشئة الاجتماعية, وأن وسائل الإعلام عندما تقوم بنقل أنماط السلوك المقبولة والقيم الشائعة, فإنها تساعد على تحقيق التآلف, والتشابه بين أفراد المجتمع الواحد. وأن وسائل الإعلام وخاصة التلفزيون يؤثر على أخلاق الشباب لأن بعض المضمون قد يحدث تأثيرا أكبر من اللازم على الشباب... بسبب مناظر العواطف والجنس والعنف, وهي مناظر تتفنن قناة تبث برامجها وأفلامها الأميركية في تكثيفها وتعزيزها وبشكل يومي. ولم يعرف صاحب الطرح الذي نسف نظريات الإعلام أن شحن الشباب بهذه المشاعر العاطفية والجنسية والعنيفة في تعارضها مع السياق والنسق القيمي والأخلاقي لأي مجتمع قد يؤدي إلى ردات فعل معاكسة, وتوجهات بالمطالبة بالإصلاح أو الثورة, وقد يؤدي كما تؤكد الدكتورة جيهان إلى تشجيع بعض أنواع السلوك المنحرف بين الأطفال الذين يعمدون إلى تقليد سلوك الأبطال في الافلام والمسلسلات مع أهمية التأكيد للذي فاتته دراسة نظريات الإعلام أن وسائل الإعلام الجماهيرية وأهمها التلفاز تقوم بدور مهم في عملية التنشئة الاجتماعية المعقدة وأن وسائل الإعلام تعتبر من المصادر الأساسية لتكيف الطفل والفرد البالغ.
إن كان هدف إلغاء نظريات الإعلام ونظريات التأثير هو تمرير تبريرات لتحقيق توجهات فإن التفكير العلمي يقول غير ذلك وللمشكك نورد بعض الحجج : في دراسة أميركية يتم التأكيد على أن أغلب الأطفال وكثيرا من الكبار يميلون إلى أن يقبلوا بدون أي تساؤل جميع المعلومات التي تظهر في الأفلام, وتبدو واقعية. وأن إمكانية تذكرهم لتلك المشاهد تكون عالية.
يقول مارشال ماكلوهن إن وسائل الإعلام التي يستخدمها المجتمع يمكن أن تحدد طبيعة المجتمع وكيف يعالج مشاكله وتؤثر على الطريقة التي يفكر بها أعضاء المجتمع ويعملون وفقها. ويقول العالم هارولد أنيس إن وسائل الإعلام لا تنقل فقط معلومات ولكنها تقول لنا ما هو نوع العالم الموجود, وهذا لا يجعل حواسنا تثار وتتمتع فقط ولكنها تعدل نسبة استخدامنا للحواس وتغير وبشكل واضح شخصياتنا. ويؤكد ماكلوهان على أن التلفزيون يدلك حواسنا, و