ألحت البرازيل على دعوة قادة البلدان العربية أوائل مايو 2005 لعبور الأطلسي إلى "برازيليا" عاصمة هذا البلد النشط في السنوات الأخيرة سواء دبلوماسياً أم اقتصادياً. وفي البرازيل قيادة لا تمل الحركة بين مئة وثمانين مليونا من البشر من سكان البلاد الضاربين في أطياف السواد والبياض أو ما بينهما وكذلك الحركة الدؤوبة إلى رحاب القارة الأفريقية والوطن العربي لأكثر من مرة. وهي مبادرة منها تجيء بعد اجتماع جاكرتا لتجديد ذكرى باندونج في أبريل الماضي ضمن حالة كانت جديتها كفيلة بتحرك فعال من بلدان الجنوب. ورغم عزوف معظم الرؤساء العرب عن الاستجابة للدعوة في الحالتين فقد صمم الرئيس "لولا دا سيلفيا" على تحويل الاجتماع إلى مظاهرة سياسية بل واقتصادية، ليصل صوت أصحاب دعوة الجنوب/ جنوب إلى أسماع المتحكمين في مصائر العالم من القادة الثمانية فيما يشبه مظاهرات "المد البرتقالي" كما أسماها البعض إشارة إلى مظاهرات الاحتجاج الشعبية التي تجتاح عدداً من بلدان العالم، متوشحين باللون البرتقالي أو متنوعاته.
وتتوفر للقيادة البرازيلية بالتأكيد معرفة بأثر وجود ملايين الأفارقة والعرب في البرازيل وكافة دول أميركا الجنوبية، على إمكان دعم دعوتها للالتقاء، ناهيك عن توفر الثروات المشتركة كالبترول، وعن الآلام المشتركة كالفقر عند القواعد الشعبية!
ويبدو أن هذه الدعوة قد أقلقت "صناع القرار" في مركزه العالمي بأكثر مما أثارت العواصم العربية، فسارعت "كوندوليزا رايس" بجولة في بعض أكبر بلدان أميركا الجنوبية قبل الاجتماع اللاتيني العربي لتكبح جماح البعض أو تكسب البعض الآخر، لكن المفاجأة كانت ملفتة حين رفض منظمو الاجتماع اللاتينيون قبول الولايات المتحدة كمراقب في القمة العربية اللاتينية، ويبدو أن آثار الغضب الأميركي قد انعكست على مستوى حضور معظم الدول العربية لهذا الاجتماع، بل وحدثت مفارقات مدهشة قرينة غياب البعض ممن كان يعنيهم مباشرة الحضور لأسباب الامتدادات البشرية أو المشاركة في التحضير للاجتماع، وإن كانت بعض الإيجابيات الأخرى قد عالجت هذا الغياب سواء بالنشاط الخليجي الملحوظ ودعوة لحضور قمة قادمة في الدوحة لدول الجنوب، أو بحضور الجامعة العربية وفلسطين بشكل مناسب.
ويظل الغياب العربي عن مثل هذا الإجماع ملفتاً وجديراً بالتعليق في إطار معارف قديمة ومقولات جديدة لا تغيب عن فطنة المتابعين. فقديماً كتب الكثير عن معارف العلماء العرب والإسلاميين عن الأطلسي إلى حد استفادة "كريستوفر كولومبس" من هذه المعارف مباشرة بما تردد عن اصطحابه لبعض المرشدين من البحارة العرب، توقعاً منه - وهو الذي ظن أنه في طريقه إلى الهند- أن بحارة عرباً سيفيدونه مثلما أفادوا "ماركو باولو" أو فاسكو دي جاما" من قبل في المحيط الهندي، بل إن كولومبس استفاد من علم أبي عباس الفرغاني "صاحب المدخل إلى علم الفلك الذي ترجم إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر، كما أنه عرف بمحاولات ملوك "مالي" المسلمين والعالم الإسلامي من حولهم لعبور الأطلسي، واختار شاطئ "سنجامبيا" الأفريقي الغربي المسلم للعبور منه إلى الأطلسي، في أيام كانت العولمة العربية الإسلامية تمتد من "غانة إلى فرغانة"، كما ردد عموم العارفين. وبينما كانت أمجاد العرب والأفارقة آخذة في الأفول، ذهب الأفارقة والعرب والآسيويون على السواء يجرجرون أذيال خيباتهم، فوق سفن "الرق الأفريقي" أو "الاغتراب العربي" ليقدموا عرقهم أو دماءهم فداء للتقدم "الغربي" أو الرأسمالي العالمي إن شئنا الدقة.
ها نحن أمام موجة جديدة من "عبور الأطلسي"؛ لكنها تبعث برسائل متعددة هذه المرة، قد يفكر فيها العرب، حتى من زواياها المتعددة. خطابها السياسي مشحون بالرغبة في إقامة بنية "ذات صوت" للجنوب ولا نقول بنية استقلالية بعد، خطاب يبعثه "لولا" و"شافيز" كما تبعثه الأرجنتين والأكوادور وكولومبيا. وهو خطاب رمزي في الغالب، لا يخفي صدقه ومصالحه في آن، لكن تدعمه الحركة الدؤوبة كما قلنا ليس في اتجاه العرب وحدهم الذين إذا عزفوا هذه المرة أيضاً فسيجد الخطاب قوته في جنوب أفريقيا والهند، من رموز "الصوت الجنوبي" ذي الثقل المرموق. وثمة مبالغة في الأروقة عن أن اليسار اللاتيني يحكم أكثر من ثلثي القارة اللاتينية، لكن ذلك يحتاج بدوره إلى مراجعة الواقع اللاتيني برؤية أعمق.
أما الخطاب الاقتصادي لهذا الحشد، فليس أقل أهمية، وقد يبدو أكثر جاذبية –كما بدا- للعرب المتمترسين في الإدارة غير الناجعة للمال في أجواء الرأسمالية العالمية ذات الأدوات والمواقع الأكثر نجاعة!
وهذا الخطاب الاقتصادي يجد امتداداته في معارك منظمة التجارة العالمية في الدوحة أو كانكون بين عامي 2003-2004 وفي انتظار اجتماعات عمان والدوحة ثانية 2005 والخطابان السياسي والاقتصادي على السواء قد تراوحا في الحضور والغياب من حولنا في مناسبة قريبة في "جاكرتا" في ذكرى "باندونج" الخمسين والتي لم يسعد القادة العرب أن يلعبوا فيها أي دور ملحوظ، وتركوها "آسيوية" مثلما ت