انتهينا في المقال السابق إلى النتيجة التالية: وهي أن الدولة في العالم العربي الإسلامي دولة مركبة، كما يقول ابن رشد، من "فضيلة، وكرامة، وحرية، وتغلب". أو هي تجمع بين "أحكام شرعية وآداب خلقية وقوانين في الاجتماع طبيعية وأشياء من مراعاة الشوكة والعصبية ضرورية"، كما يقول ابن خلدون. وكونها مركبة يعني أنها ليست فاضلة بإطلاق ولا استبدادية بإطلاق، كما يعني أيضا أنها يمكن أن تتحول وتنتقل من وضع إلى آخر.
ولكن الدولة العربية، كغيرها من الدول، ليست مجرد عناصر منها تتركب، بل هي أيضا نسيج من العلاقات. والعلاقات هي التي تعطي للعناصر مضمونها، وهي التي تربط أو تفصل بين "من أين؟" وبين "إلى أين؟". فعلا، ليست الدولة ولا السياسة مجرد عناصر منها تتركب، بل هي أيضا نمط من العلاقات، وأهمها علاقة السلطة بالمال. وغني عن البيان القول إن الدولة التي تحدث عنها ابن رشد وابن خلدون تنتمي إلى القرون الوسطى، وإذن فالعلاقات فيها ليست من نوع العلاقات التي يتميز بها المجتمع الحديث والتي ينسجها السلوك العقلاني، واحترام حقوق الإنسان والمواطن، والمساواة بين الناس... إلخ. العلاقات في مجتمع تلك الدولة لم تكن من هذا القبيل، كما أنها لم تكن من النوع الذي عرفته أوروبا والذي كان يحكمه قانون "المال مفيد للسلطة"، أي يعطيها (علاقات السيد بالعبد، علاقات الإقطاعي بالقن، علاقات رب العمل بالعمال). العلاقة بين السلطة والمال في الدولة العربية الوسطوية، علاقة معكوسة. فليس المال فيها هو الطريق إلى السلطة بل كانت السلطة هي الطريق إلى المال. وهذا ما يشهد له كل من ابن رشد وابن خلدون، فلنستمع إلى شهادتهما.
يلاحظ ابن رشد أن الناس في كثير من الممالك الإسلامية صنفان: "صنف يعرف بالعامة وآخر يعرف بالسادة، كما كان الحال عليه عند أهل فارس، وكما عليه الحال في كثير من مدننا". ويضيف ابن رشد: "وفي هذه الحال يسلب سادتُهم عامّـَتهم، ويُمْعِن السادة في الاستيلاء على أموال العامة إلى أن يؤدي بهم الأمر أحيانا إلى التسلط، كما يعرض هذا في زماننا هذا وفي مدننا هذه". (مدن الأندلس). ثم يضيف فيلسوف قرطبة: "وإذا اتفق مع هذا أن كان هؤلاء الرؤساء لا يقسمون فيهم بالعدل هذه الأموال المأخوذة من أفراد العامة، وكانوا يتسلطون عليهم، كان ذلك أشد الأمور قسوة على العامة… والأموال المكتنزة أصلا في هذه المدينة (الدولة) هي اليوم في حقيقة أمرها أموال بيوتات، أعني أنها من أجل بيوتات السادة، ولذلك فالجزء الإمامي منها (الرئيس) هو اليوم جزء التسلط بإطلاق".
والجدير بالتنبيه أن لفظ "السادة" في عبارة ابن رشد قد ورد كمقابل لـ"العامة"، وليس كمقابل لـ"العبيد"، وهو يحيل لا إلى "الخاصة" عموما بل إلى فئة منها هي التي كانت تشكل قوام "المخزن" الموحدي. ذلك أن لفظ "السيد" كان يطلق بالتخصيص على رجال الموحدين الذين كانوا العمود الفقري لدولتهم. فانقسام المجتمع آنذاك إلى "سادة" "وعامة" يوازيه ذلك التصنيف الذي كان جارياً في مغرب ما قبل الحماية الفرنسية: المخزن والرعية، والذي ما زالت آثاره وبقاياه ماثلة إلى اليوم. والمخزن بهذا المعنى الاجتماعي يشمل جميع أولئك الذين يتمتعون بقسط من "الجاه"، من الوزراء وكبار الموظفين، إلى القضاة والعلماء والأعيان والعدول والقواد والإقطاعيين إلى من دونهم من "المخازنية" ومن في معناهم. جميع هؤلاء كانوا في موقع "السادة" يمعنون في "الاستيلاء على أموال العامة إلى أن يؤدي بهم الأمر أحياناً إلى التسلط"، حسب عبارة فيلسوف قرطبة.
على أن الاستيلاء على أموال العامة لا يكون بالتسلط وحده، بل يحصل أيضا بالخدمة: خدمة العامة للسادة. وهذا ما بينه ابن خلدون بوضوح في فصل عقده بعنوان "فصل في أن الجاه مفيد للمال"، أي يعطيه. يشرح ابن خلدون سبب ذلك وما يترتب عنه فيقول: "والسبب في ذلك أن صاحب الجاه مخدوم بالأعمال يتقرب بها إليه في سبيل التزلف والحاجة إلى جاهه. فالناس معينون له بأعمالهم في جميع حاجاته من ضروري أو حاجي أو كمالي، فتحصل قيم تلك الأعمال كلها من كسبه. وجميع ما شأنه أن تبذل فيه الأعواض من العمل يستعمل فيها الناس من غير عوض، فتتوفر قيم تلك الأعمال عليه، فهو بين قيم للأعمال يكسبها وقيم أخرى تدعوه الضرورة إلى إخراجها فتتوفر عليه. والأعمال لصاحب الجاه كثيرة فتفيد الغنى لأقرب وقت ويزداد يسارا وثروة".
والجاه بهذا المعنى يسري في جسم المجتمع من أعلى إلى أسفل ليس على مستوى الأفراد فحسب، بل وعلى مستوى الطبقات كذلك. وهذا ما يشرحه ابن خلدون قائلا: "ثم إن كل طبقة من طباق (=طبقات) أهل العمران من مدينة أو إقليم لها قدرة على من دونها من الطباق، وكل واحد من الطبقة السفلى يستمد بذي الجاه من أهل الطبقة التي فوقه، ويزداد كسبه تصرفا فيمن تحت يده على قدر ما يستفيد منه. والجاه على ذلك داخل على الناس في جميع أبواب المعاش؛ ويتسع ويضيق بحسب الطبقة والطور الذي فيه صاحبه: فإن كان متسعا كان الكسب الناشئ عنه كذلك، وإن كان ضيقا قليلا فمثله.